تحت وقع تداعيات الكلام الذي قاله بابا الفاتيكان يمكن رؤية ملامح سياسة دولية أخذت تتشكل خارج السياق المتداول في نطاق الإدارة الأميركية. فالمحاضرة التي ألقاها بنديكت السادس عشر كانت مناسبة لإعادة قراءة المناخات التي يرجح أن تسيطر على المنطقة خلال الفترة المقبلة. وأهمية الكلام الذي قاله البابا لا يقتصر على اختياره لذاك المقطع المقتطع من حوار جرى بين «بيزنطي» و«فارسي» قبل 600 سنة بل لوظيفة هذا الاختيار والدور المطلوب تنفيذه من الكنيسة الكاثوليكية. فهل المطلوب من الكنيسة البابوية أن تقلع عن الحياد الإيجابي الذي عرفت به تقليدياً وتنتقل إلى سياسة الانحياز لوقف موجة نمو التيار «الديمقراطي اليساري» في أميركا اللاتينية وجنوب القارة الأوروبية وبالتالي منع التقارب بين العالمين الإسلامي والكاثوليكي؟
هذا السؤال يفتح الباب أمام احتمالات من نوع تحديد وظيفة الكنيسة الكاثوليكية في أميركا الجنوبية، ودور الفاتيكان في تعديل توجهات الإدارة الأميركية التي أهملت حديقتها الخلفية وركزت انتباهها على بلدان «الشرق الأوسط». فالتركيز على مكافحة شبكات «الإرهاب» في العالم الإسلامي/ العربي أفقد واشنطن توازنها وقلل من قدرتها على مراقبة التحولات في دول أميركا اللاتينية. وبعد خمس سنوات من تلك السياسة الدولية اكتشفت الولايات المتحدة أنها خسرت الكثير من المواقع في حوضها الحضاري ولم تكسب في المقابل تلك البدائل التي خططت لإسقاطها أو السيطرة عليها.
هذا جانب من الموضوع. الجانب الآخر يمكن رصده من خلال عودة الروح إلى دول «عدم الانحياز». فهذه المنظمة فقدت بريقها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي وتحولت إلى جهاز عام يتغنى بالماضي ولا يملك تصوراته الخاصة للمستقبل. وكادت منظمة دول عدم الانحياز أن تغيب عن المشهد الدولي بعد نجاح أميركا في إطلاق موجة تؤيد نموذجها وتبارك سياساتها تحت شعارات براقة.
الآن تبدو الأمور ليست ذاهبة في الاتجاه الذي قررته الولايات المتحدة. فالعالم الذي انطلت عليه كذبة «النظام الدولي الجديد» بات يبحث عن عالم جديد خارج نطاق هيمنة أميركا. والكلام عن «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«تمكين المرأة» و«مكافحة الأمية» ومطاردة الفقر لم يعد سلعة رائجة في سوق دولية ضربها الكساد. فالبضاعة الأميركية بعد تجارب فاشلة ظهرت أمام المستهلك بوصفها منتوجات فاسدة تجاوزها الزمن.
عودة الروح إلى دول «عدم الانحياز» ظهرت معالمها في أكثر من موقع. في أميركا اللاتينية برزت سياسات لا تخاف الولايات المتحدة ولا تهاب تهديداتها بل هناك من يستفزها ويتحداها ثقافياً واقتصادياً وشعبياً. ونمو هذه الموجة المتصادمة مع طموحات أميركا ربما يكون هو السبب الذي يقف وراء كلام البابا عن الإسلام والعالم الإسلامي. فالكلام مقصود وليس عفوياً وتم اختياره لفتح مشكلة شعبوية (جماهيرية) في الشارع تتأثر إلى حد كبير بالتوجيهات التي تأتي من الفاتيكان. والقصد من هذه التوجيهات افتعال أزمة ايديولوجية (دينية) سيكون لتداعياتها القاعدية تأثيرات سياسية تعطل ذاك التقارب الحاصل بين قضايا العالم الكاثوليكي المضاد لأميركا وقضايا العالم الإسلامي المتضرر الرئيسي من السياسة الأميركية. وما حصل في أميركا الجنوبية يمكن رصد ما يشبهه في إفريقيا وآسيا.
هناك احتمالات كثيرة تقف وراء الصورة الخفية لكلام بابا الفاتيكان. فالكنيسة الكاثوليكية تريد استعادة دورها المفقود في عالم السياسة والدخول طرفاً منافساً للتيار «الديمقراطي اليساري» الذي أخذ يكتسح برلمانات أميركا اللاتينية ويسيطر على أجهزة الحكم وتحويلها إلى مواقع مضادة لتسلط أميركا الشمالية. وهذا الدخول يرجح أن تظهر نتائجه السياسية في الفترة المقبلة وخصوصاً إذا نجحت الكنيسة في إرباك الحكومات الجديدة في إيطاليا وإسبانيا والبرازيل وفنزويلا وبوليفيا وتشيلي وصولاً إلى كوبا.
العالم الكاثوليكي تحول إلى داعم رئيسي للعالم الإسلامي في السنوات الأخيرة وبات يحمل توجهات سياسية متقاربة مع القضايا العربية ومتباعدة عن المشروع الأميركي. وهذا الأمر يشكل ضربة استراتيجية في عمق سياسة «البيت الأبيض» لأنه يمثل قوة معاكسة لتوجهات سادت فترة في واشنطن وارتكزت على فكرة أن العالم كله استسلم للقناعات الأميركية باستثناء الإسلام وعالمه الجغرافي. وظهور العالم اللاتيني (الكاثوليكي) كقوة ممانعة للولايات المتحدة أعطى صدقية للعالم الإسلامي وترك انطباعاً لدى دول «عدم الانحياز» وهي تنتمي في معظمها إلى إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية بأن واشنطن تقود حملة امبريالية ضد الدول الإسلامية تحت غطاء مكافحة شبكات الإرهاب.
كلام البابا «الديني» هو سياسي في جوهره. فالكلام أطلق موجة معاكسة في العالم الإسلامي لابد أنها ستترك تأثيراتها على الشارع الكاثوليكي وتعيد تشكيل مراكز قوى مضادة للتيار «الديمقراطي اليساري» وفكرة دول عدم الانحياز. وهذا الأمر في حال تطور ستكون له تداعياته السلبية في أوروبا الكاثوليكية وتحديداً في جنوبها حيث نجحت التيارات المناوئة للولايات المتحدة في الوصول إلى الحكم من طريق الانتخابات التشريعية.
حسابات أميركية جديدة
الولايات المتحدة الآن في وضع صعب دولياً. فمن جهة روسيا والصين تواجه عودة هادئة لتلك «الحرب الباردة» التي تحطمت بعد غياب المنافس الدولي. ومن جهة أوروبا الجنوبية تواجه صعود موجة مضادة لمشروع الهيمنة الأميركية. ومن جهة أميركا الجنوبية تواجه تحولات في مزاج الشارع وبدايات خروج جماعية لدول كانت محسوبة تقليدياً في لائحة أصدقاء الولايات المتحدة. ومن جهة العالم الثالث تواجه عودة جديدة لفكرة دول «عدم الانحياز» بعد فترة جمود أصيبت بها على إثر غياب المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية. ومن جهة العالم الإسلامي تبدو الولايات المتحدة في حال سباق مع الزمن لاحتواء كل تلك الاعتراضات التي ظهرت في أكثر من موقع تتحدى سياستها وتبدي الاستعداد للمنازلة العسكرية. وربما لكل هذه الأسباب تم توقيت كلام البابا ليأتي في مناسبات مختلفة منها انعقاد قمة دول عدم الانحياز في كوبا وانتخاب فيدل كاسترو رئيساً للمنظمة.
إذاً هناك إيقاع مغاير للاستراتيجية الأميركية بدأت تتشكل مناخاته في أكثر من موقع دولي الأمر الذي فرض على واشنطن إعادة استخدام العامل الايديولوجي (الديني) كإطار عام يغطي السياسة التي اختلقتها للبدء في هجومها على العالم العربي/ الإسلامي.
كلام البابا ليس عفوياً وتوقيته ليس مصادفة. ولكن هل يعني أن هناك متغيرات سياسية في تكتيكات الولايات المتحدة؟ مثلاً هل تريد واشنطن توسيع دائرة المجابهة لتشمل دول أميركا اللاتينية «المارقة» إلى جانب دول «الشرق الأوسط» الخارجة على الإرادة الأميركية؟ وأيضاً هل تريد الولايات المتحدة عزل قضايا أميركا اللاتينية (الكاثوليكية) عن قضايا العالم العربي (الإسلامي) من خلال افتعال فتنة تبعد الشعوب عن بعضها وتمنع التقارب السياسي الذي تقوده زعامات التيار «الديمقراطي اليساري»؟ وأيضاً هل بدأت واشنطن تعيد النظر في سياسة الأولويات وأنها أخذت تتجه نحو وضع لائحة جديدة تضم سلسلة أهداف تريد تحقيقها في أميركا الجنوبية لتعويض فشلها في «الشرق الأوسط»؟
كل هذه الاحتمالات واردة. فاحتمال التوسيع وارد ولكنه سيلاقي صعوبات كثيرة قد تنقلب على المصالح الأميركية مجتمعة في أميركا الجنوبية والعالم الإسلامي. واحتمال العزل وارد لأنه أسهل وهو يقوم على فكرة استخدام سلطة البابوية وتأثيرها الرعوي على الكنائس الكاثوليكية لإثارة المشكلات للحكومات المنتخبة وتعريضها لموجات اعتراض يديرها الفاتيكان باسم الدين لقطع التعاطف مع الإسلام والمسلمين والقضايا العربية. واحتمال إعادة النظر في برنامج الأولويات فكرة مطروحة ولكنها تأخرت بسبب ضيق وقت إدارة جورج بوش وعجزها عن السيطرة على تفاعلات سياسية عابرة للقارات وبدأت تتلاقى مجدداً لإعادة الروح إلى منظمة «دول عدم الانحياز».
كلام البابا إذاً لم يطلق من أجل فتح باب النقاش الذهني وتنشيط الذاكرة بشأن مجموعة قضايا فكرية، فهو جاء لتحريك المشاعر والشارع بقصد رسم معالم سياسة دولية بدأت تتوضح من بعيد ملامحها. فأميركا لم يعد بإمكانها احتمال سياسة التحديات والسخرية من أفكارها ومشروعها ولكنها ليست في موقع يسمح لها بالرد في وقت تسجل ضدها الأهداف المتتالية في أميركا اللاتينية وأوروبا الجنوبية وما يسمى بدول «عدم الانحياز». ولأن إدارة بوش باتت في مكان يعطل عليها العودة السريعة من «الشرق الأوسط» إلى حديقتها الخلفية قررت الاستنجاد بسلطة البابا لعلها تجد في كلامه مادة خام تستخدمها لتعطيل الحراك السياسي الذي تقوده الدول «المارقة» في أميركا الجنوبية.
سياسة العزل بين العالمين العربي (الإسلامي) واللاتيني (الكاثوليكي) هي المرجحة. وكلام البابا ليس بعيداً عن مناخات تشكل سياسة دولية خارج السياق المتداول في نطاق استراتيجية الإدارة الأميركية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1475 - الثلثاء 19 سبتمبر 2006م الموافق 25 شعبان 1427هـ