العدد 1474 - الإثنين 18 سبتمبر 2006م الموافق 24 شعبان 1427هـ

العراق... المذابح لا تعرف المذاهب

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

بكل المقاييس ما يحدث في العراق هو مذبحة، إلا أنها لا ترقى إلى الاهتمام العالمي ولا العربي، مع كل أسف ومع كل استغراب. كل يوم ينعى الناعي العراقي ما يزيد على مئة قتيل من كل الطوائف والأجناس، وبحسبة صغيرة جدا لا تستدعى استخدام آلات الحاسبة المعقدة ستفنى نخبة الشعب العراقي خلال سنوات عدة لا تتجاوز في أقصاها العشر. الأسئلة الملحة هي لماذا يحدث ما يحدث في العراق؟ ومن المسئول عن كل ذلك؟ وكيف تنتهي هذه المذبحة؟

تلك أسئلة مركزية تستحق البحث فيها.

المذابح التي تحصل هي صراع قوة والبحث عن سيطرة سياسية وبالتالي اقتصادية على العراق. قد يبدو الأمر وكأنه حرب طائفية، هي قد تسمى كذلك، وتبدو للعامة وكأنها حقيقة لا خلاف عليها، إلا أن الحقيقة الأكثر عمقا، أن المذابح تستهدف كلا من الطائفتين السنية والشيعية على حد سواء، ويقوم السنة بقتل السنة أيضا المناكفين لهم سياسيا، كما يقوم الشيعة بقتل الشيعة أيضا المختلفين معهم سياسيا. فهي إذاً في مقامها الأخير ليست طائفية، وإن أراد البعض أن يظهرها كذلك. فلا الطائفة الشيعية اليوم في العراق على وفاق سياسي بين تياراتها لاقتسام السلطة والثروة، ولا الطائفة السنية هي على وفاق لما تريد أن تحصل عليه.

الادعاء أن المذابح في العراق هي فقط مذابح طائفية هو ادعاء لكسب التعاطف وحشد الأنصار من الجانبين المتعصبين لا أكثر.

فالعراق بسبب خضوعها ولوقت طويل لدكتاتورية عمياء افتقد العراقيون غالبيتهم الحس النقدي والقدرة على التسامح، وإمكان العمل في فضاء يعتمد «أن تعيش وأن يترك الآخرين يعيشون» هذا ليس في قاموس العراق الحديث، وهو قاموس طويل من القتل والقتل المضاد.

لقد وقع في يدي أخيرا كتاب هو عبارة عن مذكرات محمد حديد، وهو رجل عمل في السياسة حتى الانقلاب البعثي في نهاية الستينات من القرن الماضي، وأمد الله في عمره ليرى ويرقب الكثير من التطورات السياسية، وكونه موصلاً (من أبناء الموصل السنة) فهو يروي في مذكراته التطورات السياسية التي قادته من الرجل الثاني في تجمع الأهالي المشهور والوطني إلى أن يصبح وزيرا في أول وزارات عبدالكريم قاسم. عند قراءة المذكرات تجد أن «التصفية الجسدية» للمعارضين في العراق عمل يكاد يكون «متمماً للشخصية العراقية» التي تعمق في دراستها الباحث العراقي على الوردي، ومع تكوين العراق الحديث تعمقت هذه الشخصية. ولا تجد في مذكرات حديد متصرفاً أو وزيراً أو كبيراً إلا وقد انتهى في الغالب بالقتل المباشر أو بقتل الشخصية عن طريق زجها في السجن لأعوام طويلة، ذلك للمحظوظين فقط.

فالقتل إذاً أداة للصراع السياسي العراقي قديمة قدم تكون الدولة العراقية، ولعل التاريخ أيضا يسعفنا بعدد من الشواهد، فقد استمرت الحملة العثمانية على كل من مصر والشام من أجل إخضاعهما إلى الدولة العلية، كما كانت تسمى، فقط حملة عسكرية واحدة، وأخذت الحملة العسكرية على العراق ثلاث حملات وثلاثين عاما حتى تنتظم العراق في حلقة الدولة العثمانية ضخمة العدد والعدة.

فتاريخ العراق يلقي الضوء على ما يحدث اليوم، الصراع السياسي يأخذ طابعا حادا إلى درجة تدبير المذابح، وهو نوع من الإرهاب الذي كانت الأنظمة العراقية السابقة، خصوصا تحت حكم البعث وصدام حسين بالذات تمارسه بحذق، وكان البعثيون الصداميون يفاخرون بأن الشعب العراقي لا ينتظم إلا بالقوة والصلافة والمشقة، وكان ذلك ديدن السياسة العراقية. وكان صدام يفاخر أمام زواره برواية يرويها عادة وزير إعلامه نصيف جاسم في وسط الثمانينات، فكان يطلب منه أن يروي كيف عاقب ابن عمه الذي هرب من الجيش، فيرد الأخير أنهم قيدوه بالسلاسل ورموه في نهر دجلة حيا وهو يستصرخ أن ينقذوا روحه. ولما تنتهي الرواية يقهقه صدام حسين مليئا ممتلئا بالفخار!

ويعيد التاريخ نفسه من خلال الميليشيات الحالية المنتشرة اليوم في العراق، كأنها تعيد أعمال الحرس القومي في حكم البعث الأول مطلع الستينات أو جماعات الأنصار في نهاية حكم عبدالكريم قاسم. انه تاريخ مديد من العنف والعنف المضاد وصولا إلى السلطة والثروة أو محاولة الاحتفاظ بهما. إذاً المسئولية التي يتحملها القادة العراقيون اليوم هي في استمرار القتل والمذابح أو الركون إلى العمل السياسي السلمي، من المسلم به أن العنف المشاهد يشارك فيه من هم في السلطة بسبب ولايتهم العامة، ومنهم في المعارضة بسبب مغالاتهم في المطالب، وبعض المعارضين هم أشد فتكا من بعض أهل الحكم. انه سباق محموم نحو التسلط، يكاد يكون الطبيعة الثانية للعراقيين.

لا يبدو أن هذه المذابح لها نهاية، ولا يجدي تدخل بعض العرب حتى وإن رغبوا في التدخل على الأقل لوقف المذابح، كما لم يجد وجود الأميركيين الكثيف. إن الفشل في إقامة «دولة ديمقراطية» في العراق هو فشل مركب، لأن الديمقراطية هي أولا ثقافة سياسية، لم تكن ومازالت بعيدة عن متناول الممارسة السياسية العراقية. ولم تكن المعارضة العراقية لحكم صدام حسين هي بذاتها ديمقراطية، إذ فشلت حتى اللحظة الأخيرة في تحقيق التوافق بين أجنحتها لما يراد للعراق بعد صدام حسين.

إذا استمرت المذابح، وهي في الغالب ستستمر، فإن العراق لن يخرج عن مسارين، الأول هو دكتاتورية لها وجه خارجي شبه ديمقراطي، تحكم العراق بالبارود والسجون، أو حكم له نكهة دينية عميقة، وشكل مخفف وربما أسوأ في التطبيق من المثال الإيراني، وكلا الحالين سيقودان العراق إلى التقسيم، إن لم يكن شيعيا سنيا، فهو على الأقل عربي كردي.

المساران مع نتائجهما الوخيمة على العراق وعلى الجيران ستكون كارثة، فهناك احتمال، في ضوء التثقيف الطائفي والاحتقان، أن تسري شرور الطائفية في المنطقة، مؤيدة بما لا يخفى على الحصيف من احتقان إقليمي متنام، كما أن حربا أهلية طويلة في العراق، ستخلف صراعا حادا في المنطقة لا يريده أحد ولا يطيقه.

في هذه الأثناء فإن أعداد الجثث العراقية ستزداد يوميا، وهي جثث يجمعها فقط كونها عراقية، لا تفرق بين سني أو شيعي أو كردي... فالمذابح لا تعرف المذاهب

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1474 - الإثنين 18 سبتمبر 2006م الموافق 24 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً