هل تتوقف ردود الفعل في العالم الإسلامي على الإهانة التي وجهها بابا الفاتيكان ويبدأ المسلمون التعامل معها بصفتها مجرد «حادث مرور» غير مقصود؟ يرجح أن تستقر الأمور عند هذا الحد وسبب ذلك يعود إلى طبيعة الدين الإسلامي الذي يقوم على مبدأ الاعتراف بالآخر واحترام الاختلاف.
مسألة الاعتراف أساسية في الإسلام وهذه النقطة الجوهرية تميز بها دين التوحيد عن غيره. فالقرآن يعترف بالأنبياء ويؤكد صحة رسالاتهم وهو يقر بالمسيحية واليهودية كديانتين سماويتين. المشكلة تبدأ في الآخرين. فاليهودية لا تعترف بالمسيحية والمسيحية تعترف باليهودية ولا تقر بنبوة محمد (ص) بينما الإسلام يقر بنبوة عيسى وموسى عليهما السلام.
هذه المسألة تشكل حجر زاوية في الاختلاف وهي كانت ولاتزال المصدر الديني لنقاط التوتر السياسية منذ أكثر من 14 قرناً ويرجح أن تبقى هذه النقطة تزعزع الثقة وتثير الاضطرابات عند كل منعطف.
المسألة ليست جديدة ولن تكون الأخيرة في هذا المجال إذا لم تتوافق الأطراف على وضع حد لموضوعة الاعتراف. وإذا لم تعالج هذه النقطة فستبقى المشكلة قائمة من دون حل وكذلك ستكون مفتوحة على احتمالات سلبية في المستقبل.
ما يزيد المشكلة توتراً هو وجود تاريخ من الصراع بين العالمين العربي/ الإسلامي والأوروبي/ المسيحي. فالتاريخ يقدم أمثلة عن معطيات سلبية وإيجابية كذلك جغرافية العالمين واتصالهما التجاري والثقافي. وبحكم موقع الجغرافيا والاتصال التاريخي تشكلت حساسيات تراكمت زمنياً ولاتزال تنتج نفسها عند كل محطة. وكلام البابا الحالي ليس جديداً في هذا الصدد بل ما قاله يمثل صورة نمطية عن شخصية المسلم وثقافته كانت سائدة في أوروبا منذ أكثر من 1400 سنة. واستشهاد البابا الحالي بمقطع مقرف يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي يشكل عودة غير موفقة إلى سلوك يتقصد فتح سجالات تجاوزها الزمن.
هذه السجالات شكلت دائماً نقاط توتر بين العالمين وأدت بسبب فتح أبوابها إلى إشعال حروب اختلط فيها الديني بالسياسي بالتجاري بالعسكري بالثقافي. وكل هذه السجالات يعود سببها إلى عدم الاعتراف بنبوة محمد (ص) ورسالة الإسلام السماوية. هذه المسألة المركزية تطرق إليها مراراً المؤرخ البرت حوراني في كتبه التي عالجت تاريخ علاقة الإسلام بأوروبا ورؤية أوروبا للإسلام. فهذا الباحث عن الحقيقة درس تاريخ الصراع السياسي بوصفه شكلاً من أشكال التعارف. وحاول جهده رصد محطات التطور في العلاقة وكيف حصلت التباسات ناجمة عن سوء فهم وقلة معلومات وضعف في المصادر.
جهل وتشويش
حوراني يشير إلى أن الجهل بالإسلام وعقيدته وتاريخه كان أساس ذاك الخلل في الفهم. فهو يميز بين الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية واختلاف النظرة بينهما. فالأخيرة كانت على تماس مباشر بالإسلام وجرى الاحتكاك مبكراً وتم الاطلاع على العقيدة منذ بدء الفتوحات. بينما الكنيسة الغربية لم تكن على دراية بالموضوع وكانت تنظر إلى الإسلام بصفته ديانة منشقة عن الكنيسة الشرقية. وأدى هذا الخلط بين الانشقاق عن المسيحية والدعوة التوحيدية الجديدة إلى اتهام الرسول (ص) بأنه منشق هرب إلى الصحراء لتأسيس كنيسته المستقلة.
آنذاك كانت المعلومات مشوشة ولا تصل إلى المعنيين بها بالسرعة المطلوبة، ولذلك اعتمدت مراكز القرار في أوروبا على حكايات وروايات شفهية أو ترجمات ناقصة ومشوهة ولكنها كانت كافية لترسيخ ذهنية محكومة بصورة نمطية عن الإسلام والمسلمين.
حوراني يشير في كتبه إلى أن أول دراسة عن الإسلام وضعها القديس يوحنا الدمشقي وتوصل فيها إلى تحديد نقاط الاختلاف واللقاء بين الديانتين. بينما رجال الكنيسة الغربية استمروا في جهلهم إلى أن حصلت أول ترجمة للقرآن قام بها روبرت كيتن في إسبانيا إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي. وبعد هذه المحاولة جرت ترجمات كثيرة للنصوص العربية في القرن الثالث عشر شملت سلسلة بحوث فلسفية وطبية وقواميس تعلم قواعد العربية والنحو. وتبعت تلك الترجمات المبكرة سلسلة أخرى اشتملت على الكثير من الجوانب الفقهية واللغوية وصولاً إلى ظهور مجموعة من النخب العربية المسيحية التي أسهمت في توضيح الأخطاء والملابسات وتصويب مفردات أو مفاهيم مغلوطة ناجمة عن سوء الترجمة.
تصحيح الصورة
يؤكد حوراني في كتبه أهمية الدور الذي لعبه الموارنة في لبنان وتأثيرهم الإيجابي في تصحيح التصورات النمطية والذهنية من خلال نشاطهم الأكاديمي في روما ثم في الكلية الفرنسية في باريس التي تأسست في العام 1587. وبعدها تأسست الكرسي العربية في ليدن (هولندا) في العام 1613 ثم كرسي في كامبردج (بريطانيا) في 1632 ثم اكسفورد في 1634. وقام جورج سيل (1697 - 1736) بترجمة القرآن إلى الإنجليزية مع مقدمة توضيحية عن الإسلام والرسول (ص).
هذا النشاط الفكري والانفتاح الثقافي ومحاولات التعارف كان يصطدم دائماً بالنزاع السياسي والصراع على خطوط التجارة ومصادر الثروة. وبسبب الخلافات كانت تتشكل تلك الصور القديمة ويعاد إنتاجها وفق ذهنية قديمة. ولم تقتصر المشكلة على الصراع المسلم - المسيحي وإنما كانت الخلافات تتجدد بناء على المواجهات المسيحية - المسيحية كما حصل بين الكاثوليكية والبروتستانتية في القرن السادس عشر. فالإسلام آنذاك كان ضحية الطرفين حين اتهم الكاثوليك البروتستانت بأنهم ينفذون مؤامرة إسلامية لإضعاف الكنيسة فرد البروتستانت بالتهجم على الإسلام والمسلمين وشخصية محمد (ص) لإثبات استقلالهم ولتأكيد البراءة من التهمة. واستمر الجدل مدة قرن تقريباً إلى أن قام مستعرب إنجليزي (همفري بريدكس) بتأليف كتاب في نهاية القرن السابع عشر يشرح فيه طبيعة الدين الإسلامي واختلافه عن المسيحية في سياق توضيحه للاتهامات الكاثوليكية ضد البروتستانتية.
المشكلة إذاً ليست جديدة وما أثاره البابا الحالي من تصريحات واستشهادات بمقاطع عفنة من حوار جرى في العصور الوسطى تدل على تقصد في افتعال توتر يعيد التذكير بذاك الجدل القديم ويجدد تلك الصورة النمطية عن المسلم ومعتقداته. فالعالم الأوروبي ليس موحداً في نظرته إلى الإسلام وكل المحاولات التي جرت لتصحيح التشوش الذهني فشلت في تغييب وجهات النظر التي تتسم بالعنصرية والكراهية.
وبسبب هذا الانقسام الأوروبي بين التيار الإيجابي المنفتح والمتفهم والمستعد للحوار والاعتراف وبين التيار السلبي المنغلق والمتعصب والرافض للحوار والاعتراف كانت الكنائس المسيحية على أنواعها عرضة لهذا التجاذب السلبي والإيجابي. فالبعض يميل إلى النظرة السلبية والبعض الآخر إلى الإيجابيات. وهذا ما يمكن أن نراه من اختلاف بين البابا الراحل الذي يؤيد الانفتاح والحوار والاعتراف وبين هذا البابا الجديد الذي يبدو أنه من المدرسة المضادة للإسلام.
إعلان البابا الحالي عن أسفه نقطة جيدة ولكنها فعلاً ليست كافية لتفسير أسباب اقتطاعه هذا النص السلبي عن الإسلام وتهربه من الاستشهاد بمقاطع إيجابية توضح بعقلانية روحية الاختلاف. فالبابا الحالي لا يعيش في القرن الرابع عشر حين كانت المعلومات قليلة ومشوشة، ويفترض به وهو العارف والعالم والمطلع على الكثير من النصوص والترجمات أن يكون أكثر دقة في الاختيار. فالزمن تغير منذ 600 سنة وهناك الكثير من النصوص المترجمة والمنقولة تعطي فكرة مخالفة لذاك المقطع الذي أسقطه البابا على العالم الإسلامي. فهل ما جرى مجرد «حادث مرور» عفوي اقتضى التنويه والإعراب عن الأسف، أم أن الاختيار كان عن سوء نية ويُراد منه إعادة عقارب الساعة إلى ذاك الزمن في القرن الرابع عشر؟ بالنسبة إلى العالم الإسلامي تبدو ردود الفعل ذاهبة نحو الاستقرار والهدوء. بقي على الفاعل أن يتعظ ويتوقف عن إشغال نفسه بمشروع فتنة يمكن الاستغناء عنه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1474 - الإثنين 18 سبتمبر 2006م الموافق 24 شعبان 1427هـ