الملف السياسي لـ «الوسط» هذا اليوم يتحدث عن مفهوم «الفوضى البناءة»، انظر ص 20 وص 21، وهي النظرية التي يتخذ منها عدد من المفكرين الأميركيين منطلقاً لإعادة صوغ النهج السياسي في منطقتنا العربية والإسلامية.
بداية، الكلمتان «الفوضى» و«البناءة» متناقضتان، لأن الفوضى «تفكيك»، والبناء «تجميع»... ولكن الفلسفة تتبع نهج «ما بعد الحداثة»، التي تعمل على التناقض في شتى المجالات.
طبق الأميركان هذا المفهوم في عالم المال والأعمال، وطريقة إدارة المؤسسات منذ نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي، وخرج لنا المفكرون الأميركان بمفاهيم إدارية مثل «إعادة الهندسة»، وترجمها بعض العرب بـ «الهندرة»، وهي تعني الغاء أساليب العمل القديمة واعادة بنائها من جديد من دون اعتبار للمفاهيم الادارية القديمة. وقد حققت هذه الفلسفة نجاحات في بعض المجالات الخاصة بادارة المؤسسات الاقتصادية، لأنها وفرت مبرراً فلسفياً للتخلص من أعداد كبيرة من الموظفين والعمال، وأفسحت المجال لدخول الشركات والمؤسسات الاقتصادية في العصر الرقمي - المعلوماتي.
المفكرون الأميركان «مططوا» النظرية ليطبقوها على السياسة في منطقتنا التي نظروا إليها على أنها تابعة إلى أساليب الادارة السياسية القديمة التي أسستها بريطانيا وفرنسا، وان هذه الأساليب أنتجت دولاً قومية ظاهرياً، وهذه الدول محكومة بحدود جغرافية صارمة، ولكن واقع الأمر - بالنسبة إلى الأميركان - هو ان منطقتنا متخلفة جداً وليس هناك رابط بين هذا الفرد أو ذاك إلا على أساس الانتماء الطائفي أو الاثني أو القبلي. وعليه فلا بأس بإثارة «الفوضى» على أن تكون هذه الفوضى تحت السيطرة، بحيث تهتز النظم القومية ذات الحدود الصارمة، وتعود الى مرتكزاتها البدائية (من دون القومية)، وهي المرتكزات المعتمدة على الانتماء (والتناحر) الطائفي والاثني والقومي. وبعد اثارة هذا النوع من الفوضى، يمكن حينها بناء إطار سياسي مختلف يجمع مجموعة من دولنا سيطلق عليها «الشرق الأوسط الكبير» وربما «الشرق الأوسط الجديد».
على أننا لم نصل الى هذه الحال من فراغ، فتاريخنا كان يتحدث عن أمة تعتمد الاخوة الايمانية بين أبناء الدين الواحد، والاخوة الانسانية مع ابناء الديانات الأخرى، والعالم الإسلامي كان يمتد من دكار (في أقصى غرب افريقيا) الى باكو (أذربيجان)، الى دكا (بنغلاديش)، الى جاكرتا (اندونيسيا)... وأمتنا حينها لم تكن تتناحر طائفيا او اثنيا (قبل أكثر من خمسة قرون)، وكانت اوروبا حينها مازالت لم تخرج من عصور الظلام... إن تنفيذ سياسة «الفوضى البناءة» على رؤوسنا ربما عقاب التاريخ لنا لأننا تنكرنا لتاريخنا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1474 - الإثنين 18 سبتمبر 2006م الموافق 24 شعبان 1427هـ