فجأة هكذا وبقدرة قادر، أصبح الشيعة في العالم العربي يشكلون خطرا يفوق التهديد الصهيوني المغتصب لفلسطين، وفجأة يكتشف الرئيس حسني مبارك قائد الدولة الحدودية مع الكيان الصهيوني أن الخطر الداهم هو خطر الشيعة الذين يوجدون في الدول العربية؛ لأن ولاءهم للجمهورية الإسلامية في إيران، وليس لهم ولاء وطني لدولهم وكياناتهم الحاكمة.
تسبق الرئيس المصري إلى هذا الموقف الشجاع والعروبي تصاريح تتحدث عن الهلال الشيعي الممتد من إيران إلى لبنان مرورا بالعراق وسورية، كل ذلك يقال علنا وجهرا أمام فضائيات العالم، في ظل صمت تام للزعامات العربية، التي ربما رضيت عنه أو تقاطعت معه أو لم تجد داعيا يدفعها للرد أو الاعتراض أو التغاير مع ذلك الموقف المسيء، نعم يمكن للتاريخ أن يسجل موقفا مشرفا لدولة الكويت التي دافعت وعلى لسان أميرها عن مواطنيها الشيعة، وأعلنت أنهم مواطنون وطنيون ولاؤهم لوطنهم ولدولتهم دون غيرها. هكذا أصبحنا أمام تهويل دائم لهذا الوجود ورسمه في أذهان المواطنين الآخرين وكأنه (بعبع) مرعب، الأمر الذي أصبح لكثرة تكراره من مسئول هنا وكاتب هناك كأنه حقيقة ثابتة يتعين أن ينظر إلى أي وجود من تلك الطائفة وفي أي بقعة من بقاع العالم ضمنه وعلى أساسه السيئ.
سياسة الاستبعاد
نتيجة للتحريك الإعلامي الكثيف والعنيف لهذه المقولات المغلوطة والخطيرة تعرضت هذه الوجودات الشيعية لوضع غير متزن وغير مريح. فمن جهة تزداد الصعوبات في تداخلها مع دولها وحكوماتها القائمة، مع سعيها لذلك التداخل واستجدائها له بالخطابات والوفود والتواصل المستمر وتأييد كل خطوة يشم منها أثر لتعزيز هذا التداخل، وربما يمكن القول إنه كلما تقدمت بعض هذه المساعي خطوة إلى الأمام، فلا تلبث أن تعود خطوتين إلى الخلف بسبب بعض مكونات تلك الدول الطاردة للحضور الشيعي والرافضة لوجوده معها والصريحة أحيانا في نبذه واحتقاره.
وهذا ما يفسِّر بعدهم القسري عن دولهم، ليعيشوا طائفة منغلقة متمحورة حول نفسها، مرفوضة من محيطها، معزولة ومجردة من المواقع الحقيقية والفاعلة في دولها، مشكوكا في أمرها، مخيفة في أي حضور تنجزه أو مطالبة تقدمها.
من جهة أخرى، يمارس الآن خطاب ليس بالجديد فعلا ولكنه يتقدم مع حركة الوضع وتوتره في العراق ولبنان، إنه باختصار ووضوح محاولات مستميتة لعزل الشيعة العرب عن محيطهم العربي، وربطهم بالفرس الإيرانيين، كما هي مؤديات هذا الخطاب.
تجربة الشيعة في لبنان مريرة وصعبة جدا، ومتقاربة مع ما نحن بصدد الحديث عنه، فقد كانوا محرومين مهمشين لا يجدون لهم موطئ قدم في دولتهم، وكان الإمام موسى الصدر رحمه الله حيا أوميتا نموذجا صادقا ومثابرا، فمازال صوته يجلجل وهو يتوسل بالقيادات السياسية الحاكمة أن تستوعب هذه الطائفة، وتدخلها في أطرها القائمة على خلفية المساواة بينها والمواطنين الآخرين، ويمكن الرجوع إلى مئات الخطب والبيانات والرسائل التي كان يرسلها إلى المعنيين في سبيل ذلك. كان رحمه الله يسعى جادا لعلاج وضع خاطئ استمر حتى بعد اختفائه، أي يمكن الحديث عن زهاء ثمانين عاماً، منذ العام 1920 إلى قبيل العام 2000.
إنه عمر طويل ومديد من الوقوف على أبواب الدولة من دون أن تسمع كلمة لعاقل ولا نصيحة لمحب على رغم الوفود والخطابات والمكاتبات، فالأبواب كانت من حديد صلب لا يلينه العدل ولا المنطق والحكمة، فالآذان صماء لا تسمع لهذا النوع من المناشدة، بل على العكس من ذلك كانت تسمع كل وشاية وشائعة تعين على الإرجاف والتخويف منهم.
كان الصدر يعي جيدا معنى الدولة والتداخل معها والولاء لها، وكان يتفهم أن ذلك لا يتم إلا بإنصاف الشيعي مواطنا، وقبوله مسئولا، والترحيب بكفاءته عالما ومبدعا، ومساواته بالآخرين موظفا، والترفق بجنوبه في الخدمات والهبات والعطايا والعمران لتكون على قدم المساواة مع غيرها من مناطق لبنان، وكان يعي أن التمييز البغيض لا ينتج للبنان خيرا ولا يعطيه إلا التعقيدات الداخلية، ومتاهات الحروب البينية.
وهنا تكمن خلفية بناء الكيان القائم المستقل ضمن الدولة كضرورة من الضرورات الملحة التي لم يجد الصدر أمامه بدا منها، فسعى إلى تأسيس وضع داخلي يحمي نفسه بنفسه بعد أن رفضت الدولة إنصافه وإنصاف طائفته وحمايته وإشراكه في المعادلة؛ كي يشعر بالأمان مقابل الأصوات المتعالية ضده من كل حدب وصوب، فأسس حركته التي راحت تعبر عن هواجس الناس وأحلامهم وتستوعب كفاءاتهم، لتصبح هذه الحركة بالنسبة إليهم عصبية يحتمون بها من المحيط الذي لا يسمعهم ولا يسومهم إلا الأذى والذل.
الآن وقد قوي هذا الوجود الذي أسسه الإمام الصدر بكل تفرعاته التي (والحمدلله) أصبح التحالف بينها استراتيجيا ومصيريا، يعود هذا الوجود ليتمسك ومن موقع قوة هذه المرة بالدولة، وهو خطابه القديم حال الضعف والهوان، فانفصاله عن الدولة ما كان حباً في الانفصال، بل كان مرغماً على ذلك، ومن حقه الآن أن يساهم في بناء دولة تفقد آلية رفضه وتهميشه وإرضاخه، ويسعى إلى دولة تتفاعل معه ويتفاعل معها في وحدة حال وطنية لا تستثني أحدا ولا تطرد أحدا، وفي الوقت ذاته يريدها دولة تناسب مستجدات وتحديات المرحلة.
لست الآن في وارد الخوض عن تجربة هذا الوجود في العراق فذلك حديث يطول، لكني أنعطف مرة أخرى إلى لبنان لأقول إن التمسك بالدولة سمة رافقت الحراك الشيعي من ضعفه إلى قوته، الأمر الذي يستدعي مراجعة المقولات التهويلية التي تبغي الفجوة والجفاء بين الدولة وشعبها
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1473 - الأحد 17 سبتمبر 2006م الموافق 23 شعبان 1427هـ