توفيت قبل ثلاثة أيام في فلورنسا الكاتبة والصحافية الإيطالية أوريانا فالاتشي عن 77 عاماً بسبب اصابتها بمرض عضال. الخبر عادي في عالم تعصف به الحروب وتتسلط على شعوبه وثرواته وخيراته الدول الكبرى. إلا أن خبر رحيل فالاتشي له طعمه الخاص بسبب مواقف هذه الصحافية السلبية من العرب والمسلمين وكراهيتها الشنيعة للعالم الإسلامي.
تنتمي فالاتشي إلى جيل من الصحافيين الايديولوجيين تميز بإدخال مواقفه السياسية بالمهنة محاولاً تحويل الحوادث اليومية إلى قوانين ثابتة تقرأ الانباء العرضية انطلاقاً من مواقف مسبقة تتسم بالتشنج والحدة. فالاتشي كانت من هذا الصنف المتهور الذي يسقط التزاماته الايديولوجية على الاختلافات السياسية مستغلاً المهنة منبراً للحكم على ثقافة الآخر. وهذا الأمر تميزت به فالاتشي إذ لم تستطع ان تفصل بين عملها الصحافي ومواقفها من هذا الفريق أو ذاك. فدائماً كانت تخلط الايديولوجيا بالسياسة والسياسة بالثقافة والثقافة برأيها الشخصي ما أدى بها إلى افتعال أزمات وإثارة مشكلات.
اشتهرت فالاتشي بمواقفها النقدية والسلبية واستعدادها للمغامرة والقفز فوق حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ وصولاً إلى السخرية من ثقافة الاختلاف واحياناً شتم عادات وتقاليد شعوب لا تتوافق مع نزعاتها الخاصة وتربيتها العائلية.
فالاتشي تنتمي إلى عائلة معادية للعنصرية وخاض والدها حرب عصابات ضد الحكم الفاشي في إيطاليا إلى أن قتل في احدى المعارك ما اكسب الأسرة سمعة طيبة في الأوساط «اليسارية» و«الديمقراطية». وهذا الشيء أعطى فرصة لتلك الصحافية الشابة في الخمسينات والستينات لاختراق الكثير من الحواجز وغامرت بحياتها في النشاطات والتغطيات الإعلامية في مناطق مضطربة في جنوب شرقي آسيا أو «الشرق الأوسط».
إلا أن فالاتشي لم تستطع التخلي عن النزعة الايديولوجية التي كانت تغلف مواقفها السياسية الأمر الذي عرضها إلى مشكلات نتيجة توترها المنطلق من الشعور بالتفوق الأوروبي على شعوب غير أوروبية. وبسبب هذه المزاجية الباحثة عن صدمات صحافية تورطت فالاتشي بسلسلة مواقف سيئة نتيجة إصرارها على تأكيد صحة أفكارها وتفوقها على الآخرين حتى حين تكون قاصرة في معلوماتها أو جاهلة للديانات والحضارات. وبسبب جهلها وقلة معلوماتها وعدم معرفتها للقوانين أو الآليات التي تحرك الثقافات المتنوعة في العالم اختلطت عليها الكثير من الأمور وانساقت إلى مواقف ايديولوجية عبثيه بحثاً عن الشهرة المجانية أو لتحقيق سبق صحافي حتى لو كان موضوع «السبق» شجاعتها أو وقاحتها أو قلة احترامها للآخر.
نالت فالاتشي شهرة عالمية واسعة في السبعينات والثمانينات ليس بسبب دقتها المهنية وعلومها ومعارفها وانما بسبب خبرتها وتشجعها واقتحامها لحقول كثيرة لا تعرف عنها إلا القليل. وهذا ما حصل معها مراراً في الشأن العربي والفلسطيني وصولاً إلى أيام الثورة الإسلامية في إيران. ففي تلك الفترة نجحت فالاتشي في تحقيق بعض الاختراقات وسجلت «ضربات» صحافية لأنها استخدمت قلمها للشماتة والسخرية والنيل من كرامة الآخرين.
كل هذا ليس مهماً. المهم في تجربة فالاتشي انها احرجت الكثير من أصحابها «اليساريين» و«الديمقراطيين» الإيطاليين والأوروبيين ووضعتهم احياناً في زاويا حادة من الصعب الدفاع عنها بسبب تطاولها على نقد مسائل دقيقة وحساسة تشم منها روائح العنصرية والفاشية. والد هذه الصحافية حارب العنصرية والفاشية والعداء للآخر، وكان يرفض تحويل اختلاف اللون أو الدين أو الجنس أو الثقافة إلى صفات تستخدم واسطة ايديولوجية كارهة للأجنبي. فالاتشي لم تكن عنصرية وفاشية ولكنها سقطت من دون وعي منها في مطبات سياسية وثقافية جعلت من كتاباتها مادة دسمة للتيارات العنصرية الأوروبية المعادية للعرب والمسلمين.
بعد 11 سبتمبر
حين وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 كانت فالاتشي تقيم في نيويورك وتخضع لعلاجات وتتناول كمية من الأدوية لمحاربة المرض العضال الذي اصابها. وشكلت الهجمات مناسبة لها لتجديد هجومها على المسلمين والعرب وربطت بين الإسلام والإرهاب وخلطت الأمور ببعضها من دون تمييز ولا دراية فتجدد النقاش بشأن كتاباتها الضعيفة والضحلة فأحرجت التيارات «اليسارية» و«الديمقراطية» وأعطت خميرة لكل الاتجاهات العنصرية والشوفينية فاستخدمتها لتأصيل روح العداء والكراهية للآخر المختلف أو «الأجنبي» الذي يعيش في أوروبا.
شكلت إيطاليا ساحة للسجال السياسي بين التيار «الديمقراطي اليساري» والتيار الشوفيني العنصري الذي كان يقوده رئيس الوزراء السابق برلسكوني. واتخد السجال من كتابات فالاتشي الشوفينية الكارهة للعرب والحاقدة على الإسلام والمسلمين مادة حيوية لإثارة الضغائن وفتح أبواب مغلقة. واضطرت قطاعات واسعة من اليساريين والديمقراطيين إلى نقد تلك الكتابات المتسرعة والسطحية واتهمت فالاتشي بالخلط بين الإرهاب السياسي ودين الإسلام. كما قام نخبة من الادباء والمفكرين والشعراء والباحثين بالرد على استنتاجات واسقاطات فالاتشي متهمين اياها بإثارة الاحقاد والكراهية والعداء وتزويد اليمين الفاشي بمادة دسمة تخدم مشروعهم المؤيد لسياسة تيار «المحافظين الجدد» في الإدارة الأميركية في واشنطن. واعتبر بعض هؤلاء كتابات فالاتشي ضرباً من «الفوضى الفكرية» سببها تناولها اليومي للأدوية والعقاقير.
حتى الآن القصة لم تنته. الفصل الأخير من حياة فالاتشي بدأ حين انتخب البابا الحالي على رأس الكنيسة الكاثوليكية. انذاك اشتد المرض على الصحافية فطلبت نقلها من نيويورك إلى موطنها الأصلي في ظروف دقيقة وحساسة وعلى اعتاب معركة انتخابية في إيطاليا بين تيار يرفض السياسة الأميركية ويقوده برودي وبين الاتجاه الفاشي العنصري المؤيد لتيار «المحافظين الجدد» يقوده برلسكوني.
في هذا المنعطف الخطير قام البابا بنديكت السادس عشر بزيارة فالاتشي. الزيارة أثارت مخاوف «الديمقراطيين اليساريين» ووجدوا فيها إشارة سلبية وبادرة تحمل معها الكثير من الانطباعات المشؤومة بسبب الحساسيات التي تركتها كتابات الصحافية المتسرعة في رؤيتها السطحية لقضايا الإسلام والعنف والمرأة المسلمة والحجاب.
الفاتيكان حاول التقليل من أهمية الزيارة معتبراً أنها رعوية ولا تحمل تلك المضامين السياسية. إلا أن الصحافيين الإيطاليين الذين رافقوا البابا وجدوا أن رأس الكنيسة يتعاطف مع كتابات الصحافية وأفكارها السلبية من خلال الاحاديث التي رصدوها. فالزيارة لم تكن مجرد تفقد حال مريضة وانما وجهت رسالة قوية باتجاه جديد يريد الفاتيكان رسم معالمه المختلفة عن تلك الفترة التي اشتهر بها عهد البابا الراحل.
بين أخذ ورد ونفي وتأكيد ضاعت القراءات التي توقعت ان البابا الحالي يعادي العرب ويكره الإسلام ويؤيد الولايات المتحدة ويعارض نمو التيار «الديمقراطي اليساري» الذي اكتسح الانتخابات في خمس دول لاتينية (أميركا الجنوبية) وفاز بالحكم في دولتين أوروبيتين (إسبانيا وإيطاليا). وبسبب ضياع الاخبار المؤكدة اختلطت الأمور وتجاوزت التطورات حادث الزيارة الملغومة. واستمرت المسألة على هذا المنوال إلى أن انفضح سر المعاينة الرعوية وتصادف إعلان ما ورد في محاضرة البابا في ألمانيا من انتقادات واضحة ومبطنة للإسلام مع ورود خبر رحيل الصحافية. فالفصل الأخير من حياة فالاتشي اعيد إنتاجه في كتاب جديد بدأ بتسجيل صفحاته البابا الحالي.
قصة زيارة «الحبر الاعظم» للصحافية تركت علامات استفهام وتعجب وأثارت المخاوف وطرحت أسئلة بشأن موقف البابا من الإسلام والمسلمين إلا أن الفصل الأخير من المشهد يؤكد صحة تلك الفرضيات التي وجدت في اللقاء إشارة سلبية تعكس وجهة نظر ليست بعيدة عن مضامين أفكار فالاتشي وكتاباتها السطحية والمتسرعة. وخلاصة الموضوع أن الكلام الذي جاء في محاضرة البابا ليس عفوياً وليس صحيحاً أن المسلمين اختلطت عليهم الأمور وعجزوا عن فهم المقصود من المقاطع المسيئة. فالوقائع تشير إلى أن خطة التصعيد وإثارة المشكلات والفتن مبرمجة ومدروسة ولذلك رفض الفاتيكان الاعتذار عن الاساءة بل أعرب عن أسفه من أن المسلمين فهموا مقاطع خطابه إهانة لمشاعر المؤمنين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1473 - الأحد 17 سبتمبر 2006م الموافق 23 شعبان 1427هـ