لقد جاء حديث قداسة بابا الفاتيكان الكاثوليكي الألماني عن الإسلام وعن تحريض النبي أتباعه على نشره بالسيف والعنف بمثابة مفاجأة لأن خطاب البابا لا يمت إلى الإسلام ولا إلى حوار الحضارات، ثم إنه كرّسه للحديث عن العقل والعقلانية، ولا نجد فيما ذكره عن الإسلام عقلاً ولا عقلانية ولا حواراً بين الثقافات بل هو تحريض ضد الإسلام ونبيه ومن أعلى سلطة كنسية في أوروبا، وذلك يتناقض مع عدد من المبادئ والأسس السليمة، التي منها النقاط الآتية:
الأولى: إن الدعوة إلى العقل تعني دعوة إلى التفكر ولا يمكن أن يستقيم العقل والفكر باقتباس من الامبراطور البيزنطي امانويل الثاني الذي كانت بلاده في حرب مع المسلمين ليستدل من أقواله على أن الإسلام يعتمد السيف في نشر دعوته، كما أن الاقتباس من البروفيسور تيودور خوري وهو المرجع الرئيسي الذي اعتمد عليه البابا من دون تمحيص يدل على التحيز والتعصب، فالمرجع ذاته مطعون في موضوعيته.
الثانية: إن قداسة البابا وهو كان أستاذاً في علم اللاهوت في ألمانيا قبل أن يتولى كرسي البابوية من المفترض أن يلتزم المنهج العلمي الذي يفترض أن يعرفه أي طالب جامعي وليس أستاذاً جامعياً بالرجوع إلى المصادر الأصلية في البحث وليس المصادر الثانوية المحرفة والمنحازة وغير العلمية.
الثالثة: إن صدقية قداسة البابا موضع تساؤل، إذ كيف يطالب المسلمين بالحوار الثقافي وهو ينتقد بالإدانة الإسلام ونبيه، وكذلك يؤكد في خطابه استعلاء أوروبا وفلسفتها الإغريقية على باقي الحضارات ويرى أن المسيحية تطورت في أوروبا بفضل الفلسفة الإغريقية والألمانية بخلاف المسيحية البدائية التي ظهرت في الشرق الأوسط. إن هذا المنطق هو ضد المسيحية كما هو ضد الإسلام، فإذا كانت أوروبا أكثر سمواً وحضارة، فلماذا لم يظهر السيد المسيح في أوروبا بدلاً من الشرق الأوسط المتخلف وفكره المسيحي المبدئي على حد قوله؟
الرابعة: إن حديث البابا الكاثوليكي الألماني عن الإسلام وانتـشاره بالسيف يتناقض مع نصوص القرآن وأحاديث النبي، والبابا استناداً إلى من أسماهم الخبراء في خطابه يثير مسألة صدقية وموضوعية هؤلاء الخبراء عندما يتحدثون عن مبدأ «لا إكراه في الدين» في سورة البقرة، ويقولون إن ذلك كان في بداية الإسلام عندما كان محمد ضعيفاً وبلا قوة. والثابت أن البقرة من السور المدنية وكان النبي في المدينة قوياً ولديه وسائل ومظاهر لتلك القوة وليس كما كان الحال قبل الهجرة، ثم إن مبدأ الحرية الدينية ورد عدة مرات في القرآن سواء في السور المكية أو السور المدنية ولكن الخبراء الذين لجأ إليهم قداسة البابا يبدو أنهم لا يعرفون التاريخ ولا الدين الإسلامي.
الخامسة: إن قداسة البابا في حديثه عن انتقال المسيحية إلى أوروبا بعد أن ظهرت في الشرق الأوسط وارتباطها بروح أوروبا وبتطور المسيحية يعبّر عن نزعة استعلائية ذات مضامين عنصرية غربية، وبالمنطق نفسه أشار إلى قواعد الحوار مع الحضارات بأنها قواعد المنطق الأوروبي العالمي وأن ذلك هو المرجعية الوحيدة. إذاً، السؤال: ما جدوى الحوار إذا كان أحد الأطراف يضع شروطه ويطلب من الجميع قبولها؟
السادسة: إن قداسة البابا نسي أن الإرساليات التبشيرية في الكثير من دول العالم كانت تحت حماية مدافع وبنادق الاستعمار، كما نسي قداسته أو تناسى الحروب الصليبية التي قادها أسلافه الباباوات في العصور الوسطى وكانوا يحرضون الملوك الأوروبيين خلالها، كما نسي أو تناسى قداسته ما تفعله الكثير من الدول التي تنتمي إلى الحضارة المسيحية إذ يدعي بعضهم من المسيحيين الجدد والمسيحيين الصهاينة أن ما يفعلونه في العراق وفلسطين جاء بوحي وأحلام دينية، ونسي قداسته ما فعلته أوروبا المسيحية عندما كان في ريعان شبابه من محرقة ضد اليهود التي ترتب عليها اضطهاد بالغ القسوة والعنف ضد الفلسطينيين. لا ندري عن أية مسيحية أو عن أي أوروبا أو عن أية عقلانية يتحدث قداسته.
السابعة: لقد لفت نظري رد الفعل المعتدل من كثير من الدول الإسلامية سواء السنة أو الشيعة من الأزهر في مصر إلى الزعيم الروحي الإيراني، هذا ما عدا قلة من علماء المسلمين من السنة والشيعة، ولكن الغالبية اتسم رد فعلهم بالاعتدال الشديد، كما لزم معظم حكام الدول الإسلامية الصمت شبه المطبق. وبالتأكيد، نحن لا ندعو إلى الرد المتهور ولكن ندعو إلى رد فعل حقيقي وقوي يوضح الحقائق وخصوصاً من علماء الدين المفروض فيهم الذب عن الإسلام والعقيدة ومن حكام المسلمين المفترض حمايتهم لديارهم ولدينهم، في حين أن المستشارة الألمانية ميركل نهضت بلا توان وبلا تردد للدفاع عن ابن بلدها قداسة البابا بندكيت السادس عشر ولم تفكر لحظة في علمانية ألمانيا وفصلها الدين عن الدولة، ولم تفكر لحظة أن هذا حوار ثقافي وفكري ومعلومات بل حوّلت الأمر إلى قضية سياسية وهو ما حدث نفسه بالنسبة إلى الرسوم الكارتونية المسيئة إلى النبي (ص)، وكأن عقلانية المسلمين واعتدالهم هي دعوة للآخرين إلى مزيد من نقدهم وإدانتهم والتشهير بهم وبنبيهم وبقرآنهم.
إنني أسأل: أين علماء المسلمين الذين صالوا وجالوا نقداً لكتاب أو رواية آيات شيطانية أو دفاعاً عن تمثال بوذا في أفغانستان أو فرض الحظر على روايات أدبية في بلادهم؟ أين هؤلاء جميعاً من حديث يقال إنه تاريخي ولاهوتي عن الإسلام ونبيه ويستند بطريقة مشوهة وباقتباسات مبتورة خاطئة منسوبة إلى ابن حزم؟ إننا نقول كما قال عبدالمطلب بن هاشم، «للإسلام رب يحميه والقرآن أنزله الله وهو له حافظ»، في مواجهة حرب أبرهة ضد الكعبة في عصر ما قبل الإسلام. ولكن الله لن يدافع عن المسلمين إذا ضعفوا واستكانوا وأخلدوا للخنوع بينما لديهم جميع مصادر القوة والثروة والعلم والعقل الذي يدعو البابا إلى إعماله. فالقرآن مليء بالآيات التي تتحدث عن العقل والفكر بشتى وظائفهما، ولكن المسلمين في غياب وسبات عميق. ولذلك، لا عجب أن يغري هذا الموقف بهم الآخرين من رسامي الكاريكاتير إلى القساوسة إلى رجال السياسة أمثال بيرلسكوني والآن جاء دور الحبر الأعظم قداسة البابا بندكيت السادس عشر للتشهير بنبي الله، ناسياً أن نهضة أوروبا جاءت نتيجة الفكر الإسلامي العقلاني.
إنني أدعو إلى حملة المليون بريد إلكتروني من المسلمين عامتهم قبل علمائهم وقبل حكامهم للرد على هذه الحملة الظالمة ضد الإسلام والمسلمين، وطبعاً العلماء لهم حساباتهم، وكذلك الحكام لهم حساباتهم، ولنترك لهم حرية القرار والاختيار.
إن المثقفين وعامة الشعب عليهم واجب إبراز الحقائق بعيداً عن الشتائم والمهاترات، ولحسن الحظ فالمسلم يؤمن بالمسيحية واليهودية وأنبيائهما الذين نجلّهم جميعاً، ولكن لا نؤمن بما أسماه الفكر الكنسي في العصور الوسطى بالحرب المقدسة، والجهاد في الإسلام هو للدفاع عن النفس وليس للاعتداء على الآخرين وليس لنشر الإسلام، كما لا نؤمن بقدسية أحد سوى الله، أما الآخرون من أنبياء وعلماء وقساوسة فهم بشر يمكن أن نحاورهم ونناقش آراءهم التي تعبّر عن مصالحهم وأطماعهم وليس عن صحيح المسيحية أو الإسلام أو اليهودية أو غيرها من الأديان
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 1473 - الأحد 17 سبتمبر 2006م الموافق 23 شعبان 1427هـ