لم تحتمل تلك العاملة التي أفنت عمرها في رياض الأطفال نقاشاً حاداً بينها وبين مديرة الروضة التي تعمل فيها، ليسبقها انهيار عصبي حاد فينهي ذلك النقاش، ويتركها فريسة المرض، وحبيسة أحد المستشفيات التي ترقد فيها حالياً، وسط قلق أهلها، ودعواتهم.
تلك صورة واحدة، ضمن مئات الصور التي يعج بها مجتمعنا للمرأة العاملة، لكنها صورة مؤلمة، حزينة، تلمسك وتحركك بشدة، لتفكر بعدها، ما هي القصة التي تقف خلف تلك النهاية الأليمة، وما هو ذلك النقاش الحاد الذي أدى لانهيار عصبي؟
ليست قصة من نسج الخيال، أو مبالغات «صحافية» الهدف منها تأجيج الوضع، إنما هي قصة معاناة حقيقية، بطلتها موجودة بيننا فعلاً، وربما تقرأ هذه السطور.
قصة.... مكررة
القصة التي لم نتمكن من جمع أطرافها من صاحبتها، لحالتها الصحية المتدهورة، لنقابية « قديمة» تنتمي لنقابة رياض الأطفال، تواردت أنباء الأسبوع الماضي بشأن خلاف نشب بينها وبين مديرة الروضة ومالكتها، وأدى إلى انهيار النقابية كلياً، ونقلها للمستشفى في حال صحية سيئة.
عرف عن بطلتنا النقابية تلك، تبنيها لقضية «حقوق العاملات في رياض الأطفال» على مدى طويل، ونشاطها في العمل النقابي المندرج تحت الاتحاد العام لعمال البحرين، وسعيها الدائم لتوفير حل لمشكلاتها ومشكلات زميلاتها في عقود العمل المؤقتة، ونقص الأجور، وعدم توفير التأمين الاجتماعي.
ولم تعرف بطلتنا النقابية، أنها كأس ستذوق منها يوماً، وأن ما سعت لتطبيقه وما تزال من أجل حقوق طالت المطالبة بها، سوف يمسها شخصياً يوماً ما. عملت النقابية لأكثر من عشرين عاماً في رياض الأطفال، وعندما قررت التقاعد وذهبت للسير في إجراءاته الطويلة المعقدة، اكتشفت أن المدة التي احتسبت لها في العمل هي سبع سنوات، وأن عليها أن توقع عقداً جديداً للعمل لعشرين سنة أخرى لتحصل على حقوقها.
تعرضت النقابية لما كانت تحذر منه زميلاتها طويلاً، فكانت توصي زميلاتها دوماً بعدم توقيع أي عقود عمل جديدة إلا بعد استيفائها للشروط التي تضمن الحد الأدنى من الحقوق التي كفلها لهن قانون العمل البحريني، وأن ما يحدث حاليا يتعارض مع الأنظمة و المواثيق التي كفلت حقوق المرأة والأم العاملة والقوانين التي يقرها قانون العمل. ذاقت النقابية من الكأس نفسه التي حذرت منها طويلاً، عندما فوجئت بمديرة الروضة ومالكتها تصر عليها أن توقع عقداً غير مستوف للبيانات التي طالبت بها، وإما فصلها. دخلت النقابية في شجار طويل مع المديرة رافضة ذلك الإجراء التعسفي المخالف في نظرها للقوانين التي عانت طويلاً لمحاربتها من خلال عملها النقابي. وارتفعت حدة الشجار، وتصاعدت وتيرة النقاش، حتى انهارت النقابية، شاهداً على انهيار أحلامها، وكل ما سعت طويلاً من أجله.
قضايا شائكة، تزيدها المرأة تعقيداً
القضايا العمالية في البحرين، وفي دول العالم كافة، شائكة دوماً، ومعقدة دوماً، فتربطها غالباً مجموعة من العوامل منها قوانين العمل، أوضاع العاملين، وظروف وبيئة العمل، وغيرها الكثير من العوامل التي ترسم في النهاية صورة لوضع العامل و بيئة عمله، ونوعية شكاواه أيضاً.
وعندما يتعلق الموضوع بالمرأة العاملة، يصبح الموضوع أكثر تعقيداً، وتشابكاً. كعادة أي موضوع عندما يرتبط أو يناقش من قريب أو بعيد وضعاً من أوضاع المرأة في المجتمع.
قطاعات شائكة، وملفات ساخنة تلك التي تواجه المرأة العاملة في البحرين، قصصها لا تنتهي، وعلى رغم أن سيناريوهاتها تختلف، إلا أن معالمها متشابهة، ترسم معاناة واحدة.
نقترب فيها من بعض أكثر القطاعات تعقيداً، لنتعرف على الملامح العامة والصورة الكلية لها،ونعرف أننا لو اقتربنا أكثر من ملامح الصورة، سوف نلمس جرحاً أو جروحاً تعرض الكثير من القصص والحكايات.
العاملات في رياض الأطفال
لأننا بدأنا الموضوع بقصة النقابية في رياض الأطفال، يحق لنا أن نعتبرها افتتاحية القضايا الشائكة في واقع المرأة العمالي في البحرين، فهي أول الغيث كما يقولون.
طال الحديث عن هموم و معاناة العاملات في رياض الأطفال في البحرين، وليس ذلك بغريب إن علمنا أن نحو 5000 امرأة عاملة في الرياض ودور الحضانة يعملن من دون قانون ينظم عملهن و يحمي حقوقهن، ويعانين قلة الأجور وانعدام الترقيات التي لا تحصل مهما طالت سنوات العمل، ناهيك عن تجريد معظم العاملات من حقوقهن في التأمين الاجتماعي والمكافآت والتعويض عن الاجازات إلى جانب التسريح التعسفي من العمل من دون سابق إنذار.
ولأن القضية شائكة، طويلة، وخطيرة « عمالياً»، حظيت باهتمام رفع إلى الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، إذ حذر الاتحاد أخيراً العاملات في رياض الأطفال من التوقيع على اتفاقات عمل مع أصحاب الرياض إذا كانت مخالفة لقوانين العمل وخصوصاً إذا كانت الاتفاقات محددة بأقل من عام أو 12 شهرا. وطالب مشاورة الاتحاد قبل توقيع الاتفاقات للتأكد من مراعاتها للقوانين والتواصل مع الاتحاد بشأن قضاياهم العمالية.
جاء ذلك بعد أن رصد الاتحاد مخالفات بدأت تبرز مع بداية العام الدراسي الجاري بالضغط على العاملات لتوقيع عقود غير قانونية وتهديدهن بالفصل إذا لم يوقعنها وذلك من قبل الكثير من أصحاب رياض الأطفال إضافة إلى ذلك تجاهل أصحاب العمل بالرياض من التأمين على العاملات لدى الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية إلى جانب استدعاء عاملات من دون توقيع عقود معهن. لا تتعدى رواتبهن خمسين دينارا، إضافة إلى تكليف العاملة بأكثر من عمل لتصبح متعددة الوظائف، إذ تعمل أحياناً معدة للمناهج ومشرفة باص ومنظفة ومعدة للطعام ومهيئة للصفوف وللعام الدراسي الجاري، فيما تبين الاتحاد أن الكثير منهن عملن في شهر أغسطس/ آب الماضي من دون راتب.
ومن بين المخالفات التي تم رصدها أيضاً اتضح بأن ثلثي العاملات غير ملحقات بالتأمينات الاجتماعية علما بأن قطاع العمل في الرياض يضم ثلاثة آلاف عاملة، والمؤمن عليهن يبلغ عددهن 1050 عاملة فقط عدا ذلك فان هناك مجموعة من العاملات لا يسمح لهن القانون بالدخول إلى سوق العمل لأنهن مرافقات لأزواجهن أو لعائلاتهن، ويعملن بالرياض.
وكان الاتحاد أثار مشكلة العاملات في رياض الأطفال في الشهور الماضية من خلال لجنة مشتركة ، في حين يسعى الاتحاد إلى التحرك بطلب عقد لقاء مع وزير التربية والتعليم ولقاء مع وزير العمل ولقاءات مع اللجان المشتركة بين الاتحاد ووزارة العمل وغرفة تجارة وصناعة البحرين لطرح هذه المشكلة.
عاملات مصانع الألبسة والملابس الجاهزة
هو ملف طويل آخر، كله هموم ومشكلات طال الحديث عنها، حتى انتهت بصورة درامية بعد تسريح أكثر من 800 عاملة من عاملات مصانع الألبسة والملابس الجاهزة خلال عام، وإغلاق عدد من المصانع. حتى تبين أن رئيسة وعضوات نقابات العاملات في هذا القطاع سرحن أيضاً ضمن من تم تسريحهن بعد إغلاق تلك المصانع. وبالتالي تعطيل النقابة التي اعتبرت في وقت ما هي النقابة العمالية الأولى من نوعها في العالم تقريباً التي تضم نساء في رئاستها وعضويتها وجميع العاملات فيها.
معاناة طويلة، وقصص مؤلمة أخرى يحملها هذا الملف، لا يخلو من ضرب، وإهانة، وتحرش جنسي تخشى شفاه المتضررات النطق به.
ويصل إجمالي عدد العاملات في مصانع الألبسة الجاهزة نحو 3 آلاف و650 عاملة، وسرحت منهن 800 بحرينية من نحو 6 صانع خلال العام الجاري. ونتيجة لإحصائية أجرتها النقابة على عينة عشوائية بلغت عاملة، تصدرت نسبة العاملات ممن يحزن الثانوية العامة، تلتها الابتدائية، تلتها الإعدادية، تلتها الأميات، ثم الجامعيات.
ويصل عدد العاملين في المصانع إلى نحو ألف عامل، يشكل البحرينيون، والبقية أجانب. نقلت القصص والشكاوى التي ترددت بشأن معاناة العاملات في هذا القطاع على مدى فترات طويلة، صورة لبيئة غير صحية، يدخلها الفئران، ولا فتحات تهوية فيها. بيئة يسيطر عليها الأجانب من أصحاب المصنع ومديري الأقسام فيه، إذ الأجور زهيدة، وساعات العمل طويلة، ولا حقوق للعاملات، ولا قانون يحميهن. مطالبات طويلة، قادتها النقابة التى ما كادت تتأسس، حتى وإد عملها بتسريح عاملاتها، اللاتي صبرن على الظلم والإهانة، طلباً للقمة العيش.
خاتمة
فضلنا أن نقترب من قطاعين، هما الأشد تعقيداً في العمل النقابي «النسائي» في البحرين، إذ المشكلات معقدة وصعبة الحل، وتنتظر الانفراج بعد أن تأزم الوضع، ولكن الأمر لا يعني أن لا مشكلات تعج في قطاعات أخرى ربما تكون أشد تعقيداً، غير أن وضعها لم يشارف بعد على الانفجار، ومع السعي العمالي والنقابي، نتمنى أن لا تنفجر أوضاعها لتصبح ضرورة لا حل لها
العدد 1472 - السبت 16 سبتمبر 2006م الموافق 22 شعبان 1427هـ