ورد في الأخبار أن وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر حذر من «خطر أن يكون التحرك المقبل لحزب الله - على الأرجح - محاولة الهيمنة على حكومة بيروت عبر ترهيبها واستخدام المكانة التي اكتسبها خلال الحرب والتلاعب بالإجراءات الديمقراطية».
مشيراً طبعاً إلى أن «الدور الإيراني الداعم لحزب الله والحركات الشيعية المتشددة في العراق ومواصلة البرنامج النووي»، وأنه دعا أوروبا والولايات المتحدة إلى الاتحاد من أجل تفادي ما سماه بـ «حرب حضارات» تأتي بنظره من «شرق أوسط يمتلك السلاح النووي»، معتبراً أن ذلك لا يمكن تفاديه إلا «بنظام عالمي جديد أساسه حلف الأطلسي مدعوماً من الدول العربية والمعتدلة...!».
ويأتي كلام كيسنجر هذا - لمن هو غير منتبه في وقت تشير فيه استطلاعات الرأي المختلفة والتقارير التي ترد إلى الإدارة الأميركية وأظن إلى سائر الحكومات والقوى المتحالفة معها عالمياً إلى أن الرأي العام العربي والإسلامي قد وصل في قناعاته ومشاعره المعادية للسياسات الأميركية «الشرق أوسطية» إلى أبعد مدى ممكن على رغم السيطرة المؤقتة على مشاعر حنقه وغضبه ومنعها من الوصول إلى حال الانفجار!
فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن الطالبان الافغانية التي كادت أن تصبح «منبوذة» في أفغانستان ناهيك عن محيطها بكل تلاوينه عادت لتصبح «الحركة الشعبية الأولى في البلاد»، باعتراف الرئيس الباكستاني كما ورد في خطاب له أمام البرلمان الأوروبي قبل أيام... هذا فضلاً عن أن معاركها التي كانت تخوضها في المديريات النائية امتدت في الآونة الأخيرة لتصبح على مستوى المحافظات وصولاً إلى تهديد العاصمة (كابول) وعلى مشارف السفارة الأميركية كما حصل قبل أيام!
كل ذلك طبعاً بفضل سياسات «الأطلسي» الأميركية في أفغانستان كما هو معروف!
وأما الأخبار التي ترد من العراق تباعاً فتفيد اشتعالاً حقيقياً لحرب أهلية وطائفية مقيتة تنشب مخالبها في الجسم البغدادي الجريح أجبرت الكثير من العوائل الشريفة على الضفتين مغادرة مدينتهم المحببة إليهم إلى كل من عمّان وطهران تاركين وراءهم ارزاقهم وتجارتهم ورأياً عاماً بغدادياً فضلاً عن عراقي عام لم يعد يثق مطلقاً بحكومة المالكي أو أي بدائل أخرى تعد لها السفارة الأميركية من وراء جدر كما يتوارد في الكواليس، ولا حتى بقدرة طهران التي وعدت المالكي بالمساعدة على استقرار الأمن في بلاده!
وكل ذلك بفضل تحكم أجهزة الاستخبارات الدولية وفي طليعتها المخابرات الأميركية والموساد في هذه الحرب الطائفية والمذهبية المقيتة التي يعود السبب الرئيسي في حصولها واستمرارها إلى تحكم الاحتلال في كل مناحي الحياة في العراق!
ولأن الجيوش «الأطلسية» تحاصر جماهير لبنان بأكثريتها المتعددة الطوائف والمذاهب والاديان وإن كانت باسم قوات اليونيفيل الأممية وقبعاتها الزرق الآن، غير أن عقل كيسنجر الثاقب ورؤيته الاستشرافية التي غالباً ما كانت دقيقة حتى الآن تؤكد له اقتراب الحال في لبنان من انفجار شعبي قريب ديمقراطي النزعة والسلوك بسبب الحال اللبنانية الخاصة وخروج أهله من حرب عدوانية طاحنة للتو فإنه أراد أن يلتف على هذه الحال المرتقبة ويعلن حال الاستنفار السياسي والدبلوماسي والإعلامي في صفوف الأطلسي حتى يقوم بخطوة ردعية مبكرة قبل فوات الأوان!
فكيسنجر مصيب تماماً وهو لا يكشف سراً عندما يقول إن حزب الله يحضر لاسقاط حكومة السينورة الحالية فقادة هذا الحزب بل حتى شركاؤه في ورقة التفاهم المسيحية - الإسلامية في التيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون صرحوا بشفافي بأن «الحكومة الحالية غير مؤتمنة على التحديات الجديدة وانه لابد من استبدالها بحكومة وفاق وطني شامل...» وبألوان السلمية الديمقراطية.
كيف؟ بالمظاهرات وحل البرلمان والانتخابات المبكرة واعتماد استطلاعات الرأي والاحتكام إلى أكثرية الشارع اللبناني وفتح ملفات الفساد أليست هذه هي الاجراءات الديمقراطية المتبعة في كل انحاء العالم الديمقراطي الحر والمتقدم؟ لماذا إذاً هي حلال لكم وحرام علينا؟
ولماذا تصبح الديمقراطية مقبولة فقط وفقط عندما تؤمن مصالح بلادكم المباشرة بل أحياناً مصالح سفاراتكم وكفى؟ متجاوزين بذلك حتى مصالح شعوبكم وأمنكم القومي على المدى البعيد.
ومصالح السفارات هنا للتوضيح فقط هي مصالح حفنة صغيرة من رجال الشركات الخاصة في عالم السلاح والنفط احياناً التي يتناغم ريعها مع آليات عمل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين أصبح دورهما أميركيا خالصاً بعد دخول عناصر المحافظين الجدد فيهما واختطاف قرارهما لصالح الإدارة الأميركية نهائياً.
ولكن حتى يرّهب كيسنجر الرأي العام الأميركي والأوروبي بكلامه «البسيط والنابع من الوقائع المشهود لها» يربط كل ذلك بـ «البعبع» الإيراني النووي! متجاوزاً بالأمور ليصل بها إلى «كارثة محتملة»! و«حرب حضارات»! مرتقبة بسبب «شرق أوسط مالك للسلاح النووي»!
والسؤال البسيط الذي اعتقد انه يتردد على لسان كل عربي ومسلم وهو يقرأ لكيسنجر هذا التحذير هو: أين هي «إسرائيلك» المدللة لديك يا صانع واقعة الدفرسوار الشهيرة من أجل انقاذها من هزيمة حتمية كانت تحيق بها في حرب رمضان المجيدة؟ نعم أين هي من معادلة الخطر المحدق هذا أين موقعها من الخطر النووي الذي تتحدث عنه وهي الدولة الأكثر خطراً نووياً بسبب ترسانتها المدمرة في هذا «الشرق الأوسط» القديم منه والجديد والكبير والموسع؟
أخيراً فإن الرأي العام في لبنان وفي كل البلاد العربية والإسلامية يقول لك يا كيسنجر تماماً كما قال أحد تلاميذك اللبنانيين المنبهرين بمدرستك الاقتصادية والمالية والدولية وهو يخاطب خصومه قبل مدة «يروحوا يخيطوا بغير هالمسلة» وهو مثل شعب لبناني جبلي مفاده اذهبوا وابحثوا عن طرق ووسائل أخرى... انفع لكم فطرقكم وأساليبكم هذه خائبة ولن تؤتي ثمارها قطعاً
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1471 - الجمعة 15 سبتمبر 2006م الموافق 21 شعبان 1427هـ