العدد 1471 - الجمعة 15 سبتمبر 2006م الموافق 21 شعبان 1427هـ

بابا الفاتيكان... والتحالف الدولي الجديد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الملاحظات التي أدلى بها بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر عن الإسلام جاءت في وقت سقيم ومناسبة سياسية. فالتوقيت يترافق مع موجة عداء عنصرية/ ثقافية ضد المسلمين عموماً وتحديداً تلك الجاليات والاقليات المسلمة المنتشرة في أوروبا والقارتين الأميركيتين الشمالية والجنوبية. والمناسبة التي احتج بها البابا لقول ملاحظاته كانت مرور خمس سنوات على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. وبسبب خصوصية موقع البابا ومكانته الرمزية وتأثيره غير المحدود على الطبقات الشعبية الكاثوليكية تعتبر الملاحظات خطيرة من ناحية اشارتها إلى خلافات عقائدية جرت محاولات كثيرة لاحتواء سلبياتها وتجاوزها خلال فترات طويلة من الزمن.

من الصعب اعتبار ملاحظات البابا مجرد هفوات فكرية على غرار زلات لسان الرئيس الأميركي جورج بوش بشأن دعواته «الصليبية» أو «الإسلام الفاشي» أو شتائم رئيس وزراء إيطاليا السابق برلسكوني عن تخلف الإسلام وتوحشه وضعف دوره الحضاري في بناء الإنسانية المعاصرة.

هفوات البابا ليست زلات لسان صدرت عن مسئول سياسي يبحث عن دور ويحاول تحشيد الشارع وراء مشروع محدود ولغايات مؤقتة. فالكلام البابوي عادة يدرس بدقة وعناية ولا يصدر إلا بعد بحث وتمحيص نـظراً إلى تأثيراته العامة والخاصة.

المسألة إذاً ليست هفوات ولا يمكن النظر إليها إلا في سياق مبرمج يقوم على ترسيم حدود ايديولوجية (دينية) لذاك الصراع السياسي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد العالم الإسلامي (والعربي) منذ سنوات.

البابا صاحب سلطة دينية بل هو أعلى سلطة دينية في العالم المسيحي ويدين بمذهبه أكثر من مليار إنسان. فالمذهب الكاثوليكي هو الأكبر بين المذاهب المسيحية ويعتبر الأساس في أوروبا بينما البروتستانتيه على أنواعها وأشكالها (اللوثرية، الكالفينية، والانغليغانية وغيرها) تعتبر تاريخياً كنائس منشقة عن الكاثوليكية وعاصمتها روما.

الملاحظات إذاً هي سياسية في جوهرها ولكنها ذات طبيعة ايديولوجية (دينية) من الصعب تجاوزها بصفتها هفوات أدلى بها رئيس دولة أو رئيس وزراء. فهي تتمتع بخصوصية تتصل بالموقع البابوي والدور الكنسي وبالتالي تتميز بتأثير خاص ومستقل عن مجرى الصراع السياسي الدائر الآن ومشروع «الحرب الدائمة» الذي ينظّر له تيار «المحافظين الجدد» في واشنطن.

الملاحظات السياسية يمكن وضعها في إطار التجاذب السياسي وبالتالي تستطيع القوى المعنية بها التعامل معها في إطار التحريض الإعلامي للتجييش أو الدفاع عن موقف محدد ينتهي بانتهاء الفترة الزمنية. إلا أن ملاحظات البابا السياسية جرت في إطار ايديولوجي وترتدي الطابع المقدس في نظر اتباع المذهب الكاثوليكي الأمر الذي يعني أن هناك صعوبات تراتبية/ هرمية تمنع تجاوزها أو تبريرها.

هناك سؤال إذاً. لماذا تفوه البابا بهذا الكلام السلبي عن الإسلام حين تناول مسألة الجهاد والعنف والاكراه والسيف والعقل والعمل وغيرها من نقاط تعتبر خارج مجال الجدل الديني؟ أجوبة وفرضيات كثيرة يمكن وضعها في سياق الرد لتوضيح معالم الصورة.

قد تكون الملاحظات محاولة كنسية جديدة للتمايز عن مواقف البابا السابق (يوحنابولس الثاني)، التي اتصفت بالمرونة والاعتدال من الإسلام. فالبابا الجديد أراد أن يصنع لنفسه شخصية مستقلة عن سياسة الراحل.

قد تكون الملاحظات محاولة كنسية جديدة للتفاهم مع الولايات المتحدة وسياسة الدول «البروتستانتيه» التي تتسم بنزعة هجومية ضد الإسلام تتمثل بدعم تلك الخطوات العسكرية التي اتخذت في السنوات الماضية بذريعة مكافحة «الإرهاب» و«إعادة تأهيل» المسلمين من طريق القوة والبطش وتحطيم البنى التحتية والسكانية.

قد تكون الملاحظات محاولة كنسية لبدء الهجوم المعاكس ضد نمو التيارات «الديمقراطية اليسارية» التي اكتسحت دول أميركا اللاتينية (الكاثوليكية) ودول جنوب أوروبا الكاثوليكية (إيطاليا، إسبانيا، وفرنسا). وتعتبر هذه المناطق معاقل البابوية التقليدية وقلاعاً تاريخية استعصت على البروتستانتيه خلال الحروب الدينية التي عصفت بالكنيستين في القرنين السادس عشر والسابع عشر وصولاً إلى نهوض الدول القومية «العلمانية».

فرضيات واحتمالات

كل هذه الفرضيات محتملة ولكنها في النهاية لا تبرر الادلاء بتلك الملاحظات السلبية عن الإسلام في وقت ترتفع فيه موجة الكراهية والعداء باسم «صراع الحضارات» والحرب بين «أوروبا والإسلام». فالكلام البابوي السياسي يعتبر في رأي الكاثوليك مقدساً. وهذا يعني أن هناك خطورة حقيقية في توظيف السياسي في الديني أو في استخدام الدين وسيلة لتمرير أهداف سياسية أو لتبرير مواجهة كبرى تقودها مافيات (لوبيات) المال والسلاح والنفط في الإدارة الأميركية.

من الخطأ استخدام العداء للإسلام طريقاً للرد على موجة «ديمقراطية يسارية» تكتسح أميركا اللاتينية أو جنوب أوروبا. فالبحث عن ذريعة لسد الطريق أمام نمو تلك التيارات السياسية يمكن أن يتم من خارج هذا السياق المفتعل وإثارة فتنة كبرى تحت شعارات ايديولوجية (دينية). والتحجج بكراهية الإسلام ليس بالضرورة هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للبابا لاغلاق الباب أمام توجهات «ديمقراطية يسارية» معادية للولايات المتحدة وسياساتها العدوانية ضد العالم الإسلامي. فالربط السياسي بين العالم الإسلامي والعالم الكاثوليكي الذي نهض على لقاء عفوي مصلحي ضد استراتيجية تيار «المحافظين الجدد» لا يعني بالضرورة افتعال مشكلة دينية بين العالمين تمهيداً لفك الاتصال بين الطرفين. فاللقاء السياسي/ المصلحي يمكن أن يتعدل أو يتغير بحسب التحولات بينما استنفار العداوات التاريخية/ التقليدية تحت مسميات ايديولوجية (دينية) يصعب تفكيكه وتجاوزه بسهولة في وقت سقيم ومناسبة ظرفية.

كلام البابا لا يمكن وضعه على سوية واحدة مع تصريحات بوش أو برلسكوني أو غيرهما. فالبابا سلطة دينية وليست سياسية. والكلام الذي يتفوه به ليس مجموعة هفوات وزلات لسان في اعتبار ان الكاثوليك يعتبرون ان ما يقوله بابا الكنيسة من المقدسات ولا يجوز التعامل معه إلا باحترام وخضوع وخشوع. فالكلام البابوي نهائي ويقوم على مسلمات دينية وبالتالي فإن تجاوزه يحتاج فعلاً إلى عمل طويل لنسيانه أو تجاهله.

تحالف دولي جديد

مرة ثانية يطرح السؤال. لماذا قال البابا هذه الملاحظات عن الإسلام؟ يمكن إضافة فرضيات كثيرة لقراءة الجواب من زاوية مختلفة.

تقليدياً تعتبر الكنيسة الكاثوليكية (بابا روما) من أهم القوى الفاعلة في التأثير السياسي على هذه المساحة الهائلة من المؤمنين بمذهبها. فالبابا الراحل مثلاً اتصف بالاعتدال من الإسلام والتطرف ضد «الشيوعية». وبسبب موقفه المعادي للاشتراكية والاتحاد السوفياتي تأسس ذاك الحلف القوي بين الفاتيكان والثنائي الأميركي (رونالد ريغان) البريطاني (مارغرت ثاتشر). وقاد هذا الثلاثي حملة دولية كبرى ضد الاتحاد السوفياتي (المعسكر الاشتراكي) في ثمانينات القرن الماضي. واستفاد الثنائي ريغان - ثاتشر من موقع البابوية وتأثير البابا (البولندي الأصل) على الجمهور الكاثوليكي في بولندا. ولعب الفاتيكان دوراً مفصلياً في تحريك اتباع المذهب الكاثوليكي وكان له الفضل في زعزعة استقرار بولندا نتيجة التأثير الديني للبابا.

أدى هذا التحالف الثلاثي (الفاتيكاني، الأميركي، والبريطاني) إلى انهيار نظام الحكم الاشتراكي في بولندا. وشكل الانهيار فجوة كبيرة في توازن المعسكر السوفياتي فأخذت دوله تتساقط واحدة بعد أخرى كأحجار الدومينو... إلى أن انتهى دور المنظومة الاشتراكية في تسعينات القرن الماضي.

بعد ذلك انفك التحالف الثلاثي بسبب انتهاء وظيفته السياسية. فالعدو «الشيوعي» اضمحل وانقرض، وثاتشر غادرت الحكم، وريغان انتهت مدته، بينما استمر البابا في موقعه المقدس في الفاتيكان.

في التسعينات أخذت واشنطن تبحث عن عدو جديد حتى تستمر المؤسسات العسكرية في التصنيع وتبقى حال الاستنفار السياسي التي تحتاجها لوبيات المال والنفط لتبرير الانفاق على التسلح.

وبدأ بوش (الأب) يخطط لهذه الاستراتيجية الهجومية الجديدة ضد الإسلام إلا أن البابا الراحل رفض الاستجابة لهذا النوع من التفكير الخطير الذي لن ينتهي من دون زعزعة استقرار العالم. فالبابا السابق أدرك خطورة المهمة ووقف يتصدى لها بقوة الأمر الذي انتهى إلى خلاف شديد بينه وبين بوش (الابن).

البابا الراحل رفض الانسياق وراء الاستراتيجية الأميركية الجديدة وحاول جهده لمنع استخدام الكاثوليك وقوداً لاشعال نار العداء الديني ضد الإسلام. كذلك رد على تلك المحاولات بزيارات وتصريحات ومواقف معتدلة أحبطت الطابع الايديولوجي (الديني) للمشروع الأميركي وعطلت عليه سياسات التحريض التي تستخدم المسيحية واسطة للهجوم على الإسلام.

رفض البابا الراحل سياسة العودة إلى الجدل الفقهي بين المسيحية والإسلام كشف الاستراتيجية الأميركية في القارة اللاتينية (الكاثوليكية) ودول جنوب القارة الأوروبية وأعطى دفعة قوية لتلك التيارات «الديمقراطية اليسارية» واسهم عفوياً ومن دون قصد في مساعدتها لكسب المعارك الانتخابية والسيطرة على انظمة الحكم في مناطق تعتبر «حديقة» خلفية أو حوض حضارات تابع للهيمنة الأميركية.

الآن تبدو الأمور اختلفت. فالبابا السابق رحل وجاء مكانه بابا من أصول ألمانية في وقت تقود برلين مستشارة مؤيدة للولايات المتحدة ومنحازة لـ «إسرائيل». فهل نحن أمام عتبات تحالف ثلاثي جديد يذكر بذاك الذي نهض بين ريغان وثاتشر والبابا السابق؟ وهل يشهد العالم الإسلامي طوراً جديداً من الهجوم السياسي يقوده تحالف بوش وبلير (أوميركل) والبابا الألماني الجديد؟

كلام بنديكت السادس عشر عن الإسلام لا يمكن اعتباره مجرد هفوات ايديولوجية وانما جاء في توقيت سقيم ومناسبة سياسية قد تعلن عن ولادة تحالف دولي جديد. كلام البابا ليس مقدساً ولكنه يتمتع عند الكاثوليك بصفة «قدسية» الأمر الذي يفتح الباب أمام احتمالات خطيرة ليس ضد العالم الإسلامي فقط وانما ضد التيارات «الديمقراطية اليسارية» في العالم اللاتيني أيضاً

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1471 - الجمعة 15 سبتمبر 2006م الموافق 21 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً