تلقيت الكثير من الأسئلة والتعليقات بشأن مقال الأسبوع الماضي ورأيت بعضها جديرا بالمناولة، وما وردني قول بعض الإخوة: إن الحديث عن فقه المقاصد يعني إطلاق دور العقل في فهم الأحكام الشرعية وهذا أمر غير مستساغ وذلك لقصور العقل البشري وعدم وجود ضمانات لصحة إدراك العقل للمقاصد الأصلية من الشريعة، ولكن هذا الكلام وإن بدا عند البعض صحيحا إلا أنه أشبه بالمغالطة فهو كمن يقول: عندما نسافر الى مقصد بعيد فلا يجب أن نعتمد على العلامات التي ترشد إليه لأننا لا نضمن أنها ستوصلنا الى النهاية المنشودة فلعلها خاطئة أو لعلنا نخطئ في فهم إشاراتها ودلالاتها!، مع أن احتمال الخطأ وإن كان واردا إلا أن الأخذ بالعلامات هو الأقرب الى الوصول من السير على غير هدى، وصحيح أن الله هو العالم بحقائق الأشياء ولكنه عندما ألقى النص الى الإنسان فقد أوكل فهمه إليه وعلى الإنسان أن يبحث عن الطريق الأصوب لفهمه بما أعطاه الله من قدرات العقل الذي به يثاب ويعاقب.
والذي أعتقده هو أن الطريقة الاستنباطية السائدة تسير سيرا معكوسا في مقام فهم الدين، إذ تبدأ بقراءة النص تجريديا وتنتهي بفرضها على الإنسان مع أن الصحيح في نظري هو البدء بفهم الإنسان أولا ثم الانطلاق من ذلك الى دراسة النص على قاعدة أن الدين لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل الدين، فلما كان الدين معدا لمصالح الإنسان وجب أن يكون على مقاسه الذي يجب أن نعرفه في مرحلة سابقة، ولذلك فقد سلك القرآن طريقة التعليل بالمصالح والمفاسد في التحليل والتحريم ففي الخمر والميسر «إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر» (المائدة: 91) وعندما حصر المحرمات علل تحريمها بأنها رجس يعني ( القذر) والقذر هو الشيء الضار، وأيضا مثل القرآن للتدين باللباس الذي يعد للإنسان «ولباس التقوى ذلك خير» (الأعراف: 26) ولكي نفهم اللباس المناسب للإنسان يجب أن نفهم كينونته ونستطلع طبيعته في بادئ الأمر،
وبما أنه يمثل موضوع الدين ومقاصده لذلك ينبغي ان ننطلق من فهم حاجاته أولا ثم نبحث في النص عما يغذي تلك الحاجات، فنكون قد تعاملنا مع النص على أساس أنه أداة للتطوير و إغناء للحاجات البشرية المتحركة على الدوام (المستحدثة) وليس مجرد تراكم عبثي رتيب، ولعلي استطيع أن أمثل للنص الديني بالموارد الطبيعية وكيف يجب أن يتعامل الإنسان معها، فيوجد فرق بين التعامل المنطلق من وعي مدى ونوعية الحاجة الى الموارد وبين الاستهلاك العشوائي لها والذي قد يحقق رقما كميا قياسيا لكنه يسجل مؤشرا نوعيا متدنيا، وهذه الطريقة تساعدنا على فهم أفضل للعلاقة التبادلية التي يجب أن تكون بين الواقع والنص، فالواقع هو الشارح الحقيقي للنص كما يقول الشيخ محمد عبده - رحمه الله -، ويدلنا ذلك على أن المعرفة الدينية يجب أن تكون خاضعة للتجربة والاستقراء كأية معرفة بشرية، وكذلك يجعلنا هذا الكلام ننفتح على الدراسات الإنسانية التي لا تقل اكتشافاتها عن الاكتشافات الطبيعية والتقنية والتي غيرت التاريخ البشري الى الأبد، وكذلك ننفتح الى حد بعيد - وليس بنحو مطلق - على الفلسفة الوجودية لا تسليما بكل نتاجها واستتباعاتها بل من حيث دراستها لوجود الإنسان ومصالحه وملاحظة ان الإنسان كائن مركب من مشاعر وغرائز وأفكار وأن الحد لأي واحد منها في الحقيقة هو تحديد لكينونته ويشكل نوعا من الإعاقة له فيجب أن نقتصر في تأطير غرائزه ومشاعره وأفكاره على ما تقتضيه ضرورة النظم والأخلاق وإن كان هذا الكلام سينتهي بنا الى السؤال عن مدى تبعية الأخلاق للثقافة ويعني ذلك البحث في كونها مطلقة أو نسبية ولكنه ليس جوهر البحث الآن.
وعجبي ممن يسعى الى فهم الشريعة من دون أن يبدأ بفهم موضوعها وهو الإنسان الفرد أو المجتمع، فلكي نفهم القانون جيدا يجب أن نفهم الأسس الثقافية والمعرفية التي يجب أن ينطلق منها القانون وأن نتعرف على الجوانب الثابتة والمتحركة في ضمنها، ونظرا لغياب هذه النظرة عن الفقه السائد فمن الطبيعي أن نجد الكثير من الاستنباطات الفقهية بعيدة عن تلبية حاجات الإنسان بما هو إنسان أو بما هو في سياق ثقافي محدد فتضطره إما الى التنكر لها والطفرة عليها أو الاحتباس في ظلها بكل ما يعني ذلك من جمود وعقد وشلل في إبداعية الإنسان.
ولأننا مستغرقون في مظاهر التدين من دون الاعتناء بغاياتها فلذلك تضمر عندنا ثقافة البحث في نتائج تلك المظاهر وما يترتب عليها من آثار - مطلوبة أو غير مطلوبة - على واقع الحياة، ولأننا نفتقر الى ثقافة الاستقراء والتجربة فلذلك ليس من أجندة مؤسساتنا الدينية اليوم القيام بدراسات ميدانية بشأن مدى جدوائية الوظائف والشعائر الدينية التي يمارسها المتدينون منذ زمن بعيد، فمن خلال ذلك فقط نستطيع اكتشاف الخلل في الفهم أو التطبيق لتلك الشعائر ومن خلال الإذعان بأهمية التجربة في اكتشاف الخلل في الفهم أو التطبيق تتضح بشكل أكبر أهمية دراسة النص من خلال الواقع الحاضر.
ونسمع الكثير من يجمعنا معهم البحث في هذه النقطة يقول إن الله هو الذي يصنع الدين وهو عالم بواقع الإنسان فما هي حاجتنا نحن البشر لدراسته؟ ولكنه غفلة خطيرة عن حقيقة ناصعة وهي أن الإنسان وإن لم يشارك في صنع الدين في طور المصدر إلا أنه لا محالة شارك ويشارك في صنع دين ما بعد التلقي من المصدر، فالإنسان هو الذي يفسر النص ويفك رموزه ويحدد دلالاته، فهو بكل أبعاده البشرية الامكان دخيل في صيرورة الدين في مقام الفهم وإن لم يكن دخيلا في صيرورته في مقام الصدور!، ولعل من توضيح الواضحات القول بإن ما يعرض في كتب الفقه والفتوى ليس شيئا ربانيا خالصا بل شارك البشر في جاهزيته النهائية، وهذه العملية البشرية هي ما يسمى بالاستنباط الفقهي، ومن الغريب حقا أن يفسر الفقهاء مصطلح الاجتهاد بأنه بذل الوسع من قبل المجتهد وأن الفقه هو الفهم أي فهم الفقيه، ثم يدعى مدع إن ناتج تلك العملية البشرية هو دين الله الخالص الذي يتعالى على البشر والتاريخ !.
وليس مفترضا أن يكون الخلل في أصل الدين فإن أصل الدين لا خلل فيه قطعا لأن مصدره الكمال ولكننا لا نكون معنيين بالدين إلا إذا تنزل بيننا بواسطة النص المستند على الإفهام والتفهيم والخاضع لقواعدهما، وهما مؤطران دائما بالأبعاد النفسية والذهنية للفهم البشري.
وهنا قد يقول أحد لماذا يتعين في مقام دراسة واقع الإنسان أن نهتم كثيرا بالمنافع الدنيوية للتدين ونهمش النتائج الأخروية له؟ ولكنني أعتقد أننا لكي نصل الى المنافع الأخروية يجب أن نمر عبر المنافع الدنيوية لأن الآخرة استمرار طبيعي للدنيا، وحقا قيل ( الدنيا قنطرة الآخرة) ولذلك فإن الفهم الديني غير القادر على إصلاح الإنسان في الدنيا يستحيل أن يكون قادرا على إصلاحه في الآخرة، وكما اشتهر عن النبي الخاتم قوله «كما تموتون تبعثون» فإذا كنا نعاني هنا في الدنيا من الفوضوية والعبثية والكراهية الاعتباطية والأحقاد الماضوية والقشريات الجوفاء فمن الخيال الباطل الظن بأننا سنتحول الى موجودات ملكوتية بمجرد أن نموت
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1470 - الخميس 14 سبتمبر 2006م الموافق 20 شعبان 1427هـ