للاختلاف أسباب، من بينها التخلف والتفاوت في أحد آفاق ثلاثة هي أولاً العلم والمعرفة، وثانياً القناعات الفكرية، وثالثاً المسلكيات الأخلاقية. تم الحديث في الحلقة الماضية عن الأفقين الأول والثاني، وسيتم الحديث الآن عن الأفق الثالث. نعني بالمسلكيات الأخلاقية مجموع المشاعر والعواطف تجاه الآخر (المسلم في مورد الحديث). فالقرآن الكريم يتحدث عن أخوة إيمانية بين المنتمين لهذا الدين يترتب عليها سلسلة من التزامات (حقوق وواجبات)، لا يسوغ ولا يجوز معها التخلي عن الحرص على تحقيق المصلحة العامة من دون الوقوف عند المصالح الشخصية بما نسميه «الأنانية»، قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (الحجرات:10).
وإذا عرفنا أن الدين المعاملة، والدين النصيحة، وأن القيم الإسلامية تفرض أن «تحب لأخيك ما تحب لنفسك»، وتفرض أن تستشعر رقابة الله عليك في السر والعلن، والخلأ والملأ «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ» (الزلزلة: 7-8). إذا عرفنا ذلك يصح لنا القول: إن الإسلام مجموعة قيم تفرض نفسها بإلحاح على سلوك المسلم، لا تسمح له أن يقع في خصومة وعداوة أو يمارس لجاجاً تجاه أخيه المسلم، فضلا عن السباب. خصوصاً إذا كان الخلاف بينهما قائماً على أسس منطقية، ليكون الاختلاف ضمن دائرة الاختلاف المشروع.
وفيما عدا ذلك يكون الاختلاف والتركيز عليه ناشئاً من دواع غير أخلاقية، لعل أهمها:
1 - الاستكبار. إذ يحلو للبعض أن يكون الأعلى والمتفوق والسيد، من دون أن يملك أسباب العلو الذاتية، ولعل فيما ساقه الباري سبحانه من حوار مع الشيطان مصداقاً للاستكبار المذموم الذي يدفع بصاحبه إلى أن يسعى لتبوء مقام لا يستحقه، قال تعالى: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ!» (ص: 75) فهو - إذاً - ينشد برفضه السجود لآدم (ع) أن يثبت فوقية وتفوقاً مزعومين أشير إليها بقوله أستكبرت - لا واقع لهما يسمح له - بهذا الرفض أم كنت من العالين.
2 - الحرص. بأن يكون المشاغب في الاختلاف جشعاً في مطالبه، يرغب في الاستئثار بالخير كله، فلا يدع قليلاً ولا كثيراً لمن يفترض أنه شريك له في النعمة.
3 - الحسد. وذلك بأن تهيمن على النفس خواطر تصب في تكريس الأنانية، التي يفتقد صاحبها الشعور الإنساني الذي يفرض حب الخير للآخر، فيكون همه ألا يصل إلى هذا الآخر شيء من الخير، ولا يصدر منه خير، وإن وقع ذلك سارع إلى إنكاره «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (النساء:54)، فهو ينكر الرسالة، مثلاً، لأنه «حسود»، وليس لأن الرسالة لم تحصل، وهكذا يكون كذلك في كل مورد من موارد الخير. فإذا تبنى جماعة من الناس نظرية علمية لا تجد عنده أدنى استعداد للتعرف عليها وتأملها فضلاً عن ترويض نفسه على التسليم بمضمونها لو كانت حقاًّ، لأن حسده أعمى بصيرته.
4 - التعصب. وذلك بأن يسيطر على الشخص، أو الفئة، شعور بالحقانية المطلقة، فلا يتيح لنفسه فرصة الاطلاع على ما عند الغير، لعله وصل إلى ما عجز هو عن أن يصل إليه. فيقع - نتيجة ذلك - في عزلة نفسية وشعورية تتلوها عزلة فكرية، فلا يقرأ إلا ما ينسجم بالمطلق مع ما يعتقده، لأن ما عداه ليس سوى خزعبلات وخرافات لا تمت إلى الحق بصلة !
4 - الحقد. وذاك حينما ينطوي على ذاته وفئته، فلا يرى الحق إلا عنده، ولا يرى الجمال إلا في ذاته، فيتجسد القبح - فيما يبدو له - في مَن يخالفه. وينتج عن ذلك كراهية فائقة قد تدفع به إلى تبني «العنف» في التعاطي مع الآخر (المخالف)، بالشعور أولاً، وبالقول أخرى، وبالفعل ثالثةً.
وينتج عن كل ذلك تمزق شعوري بين أبناء الأمة، فتصبح «أمماً» تتكرس فيها «الطائفية» و«الفئوية» و«الحزبية» و«الأنانية» «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (المؤمنون:53).
وينتج عن ذلك إحنٌ ومحنٌ تبدأ ولا تنتهي، يحرق كل واحد منها الأخضر واليابس، فلا نكاد نطفئ ناراً حتى نحترق بأخرى، يتخطفنا الناس من حولنا أذلة خاسئين.
العلاج:
ومن تضاعيف الحديث تبيّن أن العلاج يكمن في: يتنادى أبناء الأمة إلى كلمة سواء نقوِّم بها آفاقنا العلمية والفكرية ونهذب فيها النفوس ليتغلب فيها الصالح العام على المصالح الشخصية. ولن يكون ذلك بالعزوف عن مصادر الحق ومنابعه المتمثلة في كتاب «لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» (فصلت:42)، فيه من الخصوصية ما يعيد إنتاج الإنسانية في الإنسان «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (الحشر:21).
وفيما عدا ذلك «اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الأنفال:25)؛ لأن الاعوجاج الفكري يدفع بصاحبه إلى اعوجاج في السلوك والشعور، قال تعالى: «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» (محمد:38).
وإننا موعودون ممن لا يخلف الميعاد بقوله عز من قائل: «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» (الأنبياء:105)، شريطة أن نتوافر على الصلاح بالتوافر على أسبابه، ومنها إشاعة «التآخي» بين أبناء الأمة الواحدة، تمهيداً للتعرف على معالم الحق الذي كاد أن يغيب في عتمة الاختلاف والفرقة.
وإن أمة حظيت بـ «القرآن» الذي يهدي للتي هي أقوم لجديرة بأن تكون الوارِثة للأرض «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِ
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1470 - الخميس 14 سبتمبر 2006م الموافق 20 شعبان 1427هـ