لا أحد يزعم بحصر أسباب ضعف الثقة المتبادلة بين الدولة والشعب في طرف واحد فقط، إذ لا يمكن نفي وجود أخطاء من جانب فئات من الشعب تثير الاستفزاز، غير أنه في الغالب الأعم فإن الدولة لها الدور الأكبر في خلق هذه المعضلة، فالدولة ممثلة في الحكومة هي الطرف الأقوى، وبيدها الكثير من السلطات التي تحفظ النظام، وهي قادرة من خلال حتى دستور 73 فضلاً عن دستور 2002، على فعل الكثير في حال حاول البعض تجاوز الخطوط الحمراء، ولكن الذي حدث رهاب استباقي من قبل الحكومة حتى من مجرد خوض تجربة نزيهة في حدها الأدنى.
لا يمكن قبول دعاوى واهية تتشبث برفع صورة هنا أو سب وقدح باسم مستعار مجهول في منتدى الكتروني هناك، ومن ثم تقوم بعض الجهات بتسريب مقولات غير مصرّح بها رسمياً، تتهم فئة من الشعب بضعف الولاء، وإليها تُرجع ضعف الثقة بين الشعب والدولة، فهذا يدفعنا إلى الدخول في سفسطة وجدل بيزنطي بشأن أيهما أولاً، البيضة أم الدجاجة، فلعل المواقف السلبية تجاه المطالب الشعبية المشروعة طيلة الفترة التي أعقبت حل المجلس الوطني سنة 1975م هي الدافع الرئيسي لمشكلة تردي الثقة المتبادلة وتبادل الشكوك، فهل المسألة تتعلق بالثقة المتبادلة أم أن هناك من المتنفذين من يخشى من تقييد أياديه تجاه العبث بالمال العام وثروات البلد؟
ليس من الإنصاف الحديث عن الثقة وعدمها والغمز لفئة معينة بعد أن مرّت عشرات السنين قادت لوجود شريحة عظيمة تعيش الفقر والحرمان، والأجدر أولاً العمل على تحقيق الحاجات الأساسية للناس من مسكن ومعيشة وتعليم وغيرها من صنوف الحاجات الأولية، فيكفي أن ما يقارب نصف المواطنين ليس لديهم سكن خاص بهم (47 ألف طلب إسكاني)، وإذا كان 18 ألف موظف بحريني يتسلمون رواتب أقل من 200 دينار فكم عدد من يتسلمون أقل من 300 دينار؟ هذا مع أن الناس ترى فائضاً كبيراً في الثروة والدخل، وخصوصاً في السنوات الأخيرة التي ارتفع فيها سعر برميل النفط إلى رقم خيالي قياساً بالسابق، أدت إلى ارتفاع الإيرادات النفطية المساهمة في الموازنة العامة من 47 في المئة سنة 1998 إلى 76 في المئة في العام الماضي. وإذا كان مجمل الدخل المحلي وصل حديثاً إلى 3,66 مليارات دينار، كما أشار إلى ذلك أحد الوزراء بتاريخ 20 يونيو/ حزيران 2006 وهو يتحدث عن مساهمة طيران الخليج، وبما أن «إجمالي مصروفات الدولة المخصصة للعام 2007 بمبلغ 1,854 مليون دينار» («الوسط» 15/7/2006)، فهذا يعني أن الدولة أصبحت تتحكم في ما يقارب الـ 50 في المئة من مجمل الدخل المحلي، وهذا الرقم ليس هيّناً في اقتصادات السوق الحرّ التي تفترض إقصاء الدولة عن ممارسة النشاط الاقتصادي.
ثم إنه بعد أكثر من ثلاثة عقود من الحياة تحت جحيم قانون أمن الدولة، فإن من يحق له التوجس أكثر هم الناس، لا الحكومة التي تعتبر المسئول الأول عن النتائج السلبية للوضع الحالي، لأنها وضعت كل السلطات في يدها طيلة المدّة الماضية. والحكومة قادرة على خوض تجربة نظيفة، وفي يدها إيقاف كل من تسوّل له نفسه الاستفادة من التجربة في سبيل تحقيق أهداف أخرى غير مشروعة. لذلك يجدر التساؤل: ألم يحن للدولة أن تجرّب الشعب ولو لمرة واحدة من خلال التوافق الدستوري، وإجراء عملية انتخابية يتفق الكل على نزاهتها، بدلاً من إظهار مزيد من الضيق بالمعارضة السلمية لتطال المجلس القادم العاجز أصلاً عن التشريع، والسعي لسلبه حتى مجرد المراقب والمساءلة؟ أليس الإصرار على فرض التصويت الإلكتروني، بجانب تمرير الكثير من القوانين التي تتناقض حتى مع العهد الدولي الأول الذي وقعته الدولة حديثاً، كقانون التجمعات والإرهاب... أليس ذلك كله مدعاة لتكريس أزمة الثقة ورفع مستوى التوجسات؟
أخيراً، فإن كل من يعيش على هذه الأرض ويستقر بها، وتصبح بلده الدائم، سترتفع مطالبه عن المرحلة السابقة من وجوده حينما قدِم لمجرد جمع المال ومن ثم العودة إلى وطنه الأصلي، وستلتحق مطالبه بمطالب المواطنين، كتوفير السكن الخاص والتعليم والمشاركة في صناعة القرار وتعديل تقاسم الثروة وحرية الفكر والتعبير... إلخ، هذه المطالب وعدم تحقيقها تُعد السبب الحقيقي وراء الاحتقانات وضعف الثقة المتبادلة، فهل هناك من يجرؤ على الزعم بأن الدافع خلف تعطيل مصالح المواطنين والحيلولة دون نيل مطالبهم المشروعة سببه عدم الثقة بهم؟
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1470 - الخميس 14 سبتمبر 2006م الموافق 20 شعبان 1427هـ