ولد حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في الطابران في طوس (خراسان) ودرس على يد أبي النصر الإسماعيلي في جرجان ثم ارتحل إلى إمام الحرمين أبي المعالي الجويني في نيسابور. اشتهر في عهد نظام الملك وندب للتدريس في نظامية بغداد (484 - 489 هجرية) ثم زار دمشق والقدس والاسكندرية ورحل إلى الحجاز وحج. وعاد إلى وطنه وطلبه ابن نظام الملك (الوزير فخرالدين) للتعليم في نظامية نيسابور (499 هجرية) ثم عاد إلى وطنه بعد مقتل فخر الملك (500 هجرية) وابتنى إلى جواره خانقاه للصوفية ومدرسة للمشتغلين ولزم الانقطاع إلى أن توفي في الطابران (راجع معجم المؤلفين، الجزء الثالث، صفحة 671).
احتار العلماء في تصنيف مذهب الغزالي. فهناك من اتهمه بالصوفية والتصوف حين ربط نقاد عصره فترة زهده بطفولته (أبوه الصوفي ومربيه المتصوف) ونسب اسمه إلى مهنة والده (غزل الصوف). وهناك من اتهمه بالتشيع على المذهب الإسماعيلي بربطه بتلك الفترة التي قضاها في جرجان (ثلاث سنوات) ودرس على يد الإمام أبي نصر الإسماعيلي. وهناك من اتهمه بالمتكلمة بربط أفكاره بأستاذ الأشعرية في عصره إمام الحرمين الجويني. وانتقده ابن الجوزي (أبوالفرج) كذلك ابن الصلاح بسبب مزجه الأحاديث بعلوم وموضوعات مختلفة. بينما اعتبره الإمام السبكي من طبقات الشافعية على الطريقة الأشعرية، وهو الصحيح.
ويرجح أن سبب الاختلاف على تحديد مذهبه يعود إلى أسلوب الغزالي وطريقته التجريبية في المعرفة وهو يصفها كالآتي: «لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا واجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسر وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته» (المنقذ من الضلال، صفحة 41).
أدى أسلوب الإمام الغزالي المركب والمعقد في الاشتغال على المسائل الفكرية ومعايشتها والاقتراب منها إلى حصول نوع من الالتباس لاحقاً على القاضي الفيلسوف ابن رشد فاتهم الغزالي بثلاث «هو مع الأشعرية أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف». (فصل المقال، صفحة 48).
فمن هو الغزالي الذي شغل الدنيا والناس في تحركاته وأفكاره وسجالاته ضد خصومه من طرق الصوفية والفلاسفة والتعليمية وبعض العلماء؟
يصف الغزالي تطوره الفكري وانتقاله من محطة إلى أخرى فيذكر أنه ابتدأ بعلم الكلام، ثم انتقل إلى علم الفلسفة، ثم اطلع على علوم الباطنية وانتقدها، ولما فرغ من هذه العلوم أقبل على الصوفية واكتشف أن طريقتهم تتم بعلم وعمل و«كان العلم أيسر عليَّ من العمل» (المنقذ، صفحة 79).
عموماً يعتبر الإمام الغزالي ثمرة من ثمار حركة نظام الملك الإصلاحية وأحد أعلامها لاحقاً. ولد سنة 450 هجرية (1058م) في طوس في منطقة خراسان من أسرة فقيرة. كان والده يغزل الصوف ويعتاش منه ويميل إلى الصوفية ويتقرب منهم.
تيتم الغزالي وهو طفل صغير فنشأ في رعاية أحد الصوفية (صديق والده). وبسبب فقر مربيه دفعه إلى إحدى المدارس التي تهتم برعاية اليتامى وتربيتهم. وهناك درس على أستاذه يوسف النساج وأخذ الفقه في طوس على أحمد بن محمد الراذكاني الطوسي. وارتحل إلى جرجان في سنة 465 هجرية وهو دون سن العشرين فتلقى العلم على يد الإمام أبي نصر الإسماعيلي لمدة ثلاث سنوات وعاد إلى بلدته طوس وواصل دروسه لمدة ثلاث سنوات أخرى. ثم قصد نيسابور في سنة 470 هجرية والتحق بالمدرسة النظامية التي كان يشرف عليها إمام الحرمين الجويني.
يعتبر الجويني إمام عصره في الكلام والأصول والمنطق وإليه انتهت رياسة المذهب الشافعي في خراسان وبرع في مقارعة خصوم الطريقة الأشعرية والدفاع عنها بالأدلة العقلية، وكان على دراية بالمذاهب والبرهان في أصول الفقه وغير ذلك من مختلف العلوم. وبرعاية الجويني التي دامت ثماني سنوات درس الغزالي الفقه والأصول والمنطق والكلام والفلسفة ونشر عشرات الرسائل وطارت شهرته وهو لايزال دون سن الثلاثين.
توفي الجويني في العام 478 هجرية وعاد الغزالي إلى طوس للتأليف والكتابة ونشر الكثير من البحوث الفقهية والكلامية فاتصل به نظام الملك من العسكر في أصفهان وطلب منه تولي التدريس في نظامية بغداد التي عرفت بدورها شهرة واسعة عندما كانت بإشراف الشيخ أبي إسحق الشيرازي إمام الشافعية في عصره وصاحب المؤلفات في الفقه والأصول والحديث وله مصنف في طبقات الشافعية.
توفي الشيرازي في سنة 476 هجرية وحصلت صراعات كثيرة لتولي التدريس في النظامية ودبّت خلافات طائفية ومذهبية وتمت الوقيعة بين المعتزلة والحنابلة والحنابلة والأشاعرة والأشاعرة والمعتزلة فأراد نظام الملك توكيل الغزالي إدارة المدرسة والإشراف على برنامجها التعليمي، وأطلق عليه لقب زين الدين شرف الأئمة.
وافق الغزالي على المهمة وانتقل من أصفهان إلى بغداد وتولى التدريس في النظامية في سنة 484 هجرية، وهو في 34 من عمره. وكان يحضر دروسه رؤوس العلماء من حنابلة وأشاعرة وصوفية ومعتزلة. وبرع، كما يقول المؤرخ ابن كثير (الحنبلي)، في علوم كثيرة «وله مصنفات منتشرة، في فنون متعددة، فكان من أذكياء العالم، في كل ما يتكلم فيه» (جزء 12، صفحة 187 - 188).
تعتبر فترة تدريس الغزالي في نظامية بغداد محطة حاسمة في حياته. ففي تلك المرحلة نجح في التأثير على جيل كامل من طلبة المشرق والمغرب، وألف أهم مصنفاته الفلسفية، وقام باتصالات سياسية خطيرة بقصد التشجيع على تعزيز الخلافة وإعداد جيش الدولة لمواجهة أخطار جيوش الفرنجة التي اتسعت دائرة حروبها في الأندلس وصقلية (سقطت صقلية سنة 484 هجرية) وأخذت تستعد لشن هجومها الكبير على المشرق (بلاد الشام والقدس).
اقتصرت فترة تدريس الغزالي في النظامية أربع سنوات كتب فيها عشرات الأبحاث أبرزها «مقاصد الفلاسفة» وفيه عرض موجز لأهم أفكار الفلاسفة المسلمين مع مقدمة نقدية لمدارسهم. و«تهافت الفلاسفة» وفيه تفكيك لأدلة الفلسفة، وفيه محاججة بقصد «التشويش» على مناهج الفلاسفة المسلمين (الفارابي، وابن سينا) وكشف تناقضاتهم وتعارضاتهم (تهافتهم). و«الاقتصاد في الاعتقاد» وفيه أصَّل قواعد الفقه على أساس الكتاب والسنة والموازين الخمسة في الأقيسة وهي: الميزان الأكبر من موازين التعادل، والميزان الأوسط، والميزان الأصغر، وميزان التلازم، وميزان التعاند.
إلى تأسيس منهجه الفكري قام الغزالي بتدريس الداعية المغربي محمد بن توغرت وشجعه على إحياء علوم الدين في بلاده وتأسيس دولة تتصدى لحملات الفرنجة وتعيد للخلافة هيبتها. وعاد ابن توغرت إلى المغرب ولقب نفسه بالمهدي وأطلق حركة سياسية - دينية نجحت لاحقاً في تأسيس دولة الموحدين (بعد رحيل الغزالي بسنوات) كان لها شأنها الكبير في الأندلس. وكان الغزالي في تلك الفترة على اتصال بأمير دولة المرابطين يوسف بن تاشفين وقام بتشجيعه على إعادة توحيد المغرب في ظل دولة واحدة تابعة للخلافة العباسية وأجاز له تفكيك دويلات الطوائف في الأندلس وإلحاقها بدولة المرابطين.
وفي وقت كان الغزالي ينظر إلى بعيد ويفكر بشئون المسلمين في المغرب اغتيل قائد الحركة الإصلاحية التربوية نظام الملك في حادث وقع سنة 485 هجرية واتهم به الديالمة، وبعده توفي الخليفة المقتدي سنة 487 هجرية وتولى ابنه المستظهر بأمر الله الخلافة. وترافقت التحولات السياسية مع مرحلة أصيب فيها الغزالي بإحباط نفسي ودخل في كآبة، وصف عوارضها في كتابه «المنقذ من الضلال».
لا يعرف تحديداً سبب كآبة الغزالي فهو ينسبها إلى شكوك عقائدية انتابته، وخصومه يذكرون أنها تعود إلى نزعته الصوفية التي عادت تسيطر عليه. ويرجح أن هناك أسباباً سياسية دفعته إلى ترك التدريس في النظامية ومغادرة بغداد سراً إلى دمشق بعد أن تذرع للخليفة الجديد (المستظهر) أنه يريد القيام بفريضة الحج.
ترك الغزالي بغداد في سنة 488 هجرية «زاهداً في الدنيا، لابساً خشن الثياب بعد ناعمها. وناب عنه أخوه في التدريس» (ابن كثير، جزء 12، صفحة 160). إلا أنه لم يترك السياسة والفكر، إذ ألف في تلك الرحلة (دامت بين 9 و10 سنوات) أهم كتبه «إحياء علوم الدين». وهو الكتاب الذي سيأمر لاحقاً أمير دولة المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين بحرقه بعد أن أخذت دولة الموحدين تهدد مواقع دولته ومناطق نفوذها في المغرب والأندلس.
فترات غامضة في حياته
آنذاك مرّ الإمام الغزالي في مرحلة مضطربة من حياته بعد تركه التدريس ومغادرته بغداد إلى دمشق في سنة 488 هجرية. وتزامنت تلك الفترة القلقة من حياته مع بداية هجوم الفرنجة على المشرق. وتصادف احتلالهم القدس وهو لايزال يعيش حياة زهد وعزلة انقطع خلالها للتفكير والتأليف. وأثارت فترة العزلة الغموض بشأن أعماله وخطواته في السنوات تلك من حياته. فعندما سقطت القدس كان الغزالي تجاوز الأربعين من عمره وشهد عن قرب أكبر الهزات السياسية وأعنفها في المنطقة، مع ذلك لا نلحظ عنده أية إشارة لحملات الفرنجة بل إنه لا يأتي على ذكرها في مفكرته التي وصف فيها محطات حياته وتطوره الفكري. ففي كتابه «المنقذ من الضلال» الذي يرجح أنه صنفه بين 499 و500 هجرية لا نجد أي ذكر لتحركاته السياسية واتصالاته ودعواته الجهادية وتشجيعه على محاربة الفرنجة في الأندلس والمشرق. فمعظم تلك المعلومات وردت في كتب المؤرخين بينما اكتفى الغزالي بوصف محطاته الفكرية وأزماته النفسية والإيمانية وتوصله إلى اليقين عن طريق الكشف بعد البرهنة عليه بالأدلة العقلية.
تذكر الترجمات عن تلك الفترة الغامضة من حياة الغزالي معلومات مشوشة. تقول مثلا إنه عاش في دمشق مدة سنتين ولا تذكر الفترة التي قضى فيها تلك المدة. ونعرف مثلاً أنه في سنة 493 هجرية حاول الفرنجة احتلال دمشق وفشلت خطتهم بهزيمة منكرة. فهل كان الغزالي آنذاك في دمشق أم غادره
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1470 - الخميس 14 سبتمبر 2006م الموافق 20 شعبان 1427هـ