شكلت الزيارة الخاطفة التي قام بها رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير لبيروت مناسبة لرفع الغطاء عن قضايا الخلاف السياسي في لبنان. فالزيارة البروتوكولية جاءت في وقت حساس وغير مناسب وفائدتها الوحيدة نقلت المشكلات المسكوت عنها من الملاجئ إلى السطوح.
كان بامكان بلير تجنب هذه الزيارة الخاطفة التي فاقمت توتر العلاقات الأهلية وزادت من درجة حرارة القوى السياسية وصولاً إلى تبادل الاتهامات والتشكيك في المواقف. لا يعرف حتى الآن لماذا زار بلير بيروت إلا أن نتائج تلك الزيارة كانت كافية لترسيم حدود التوتر السياسي القائم بين الطوائف والمذاهب والمناطق. فهناك الكثير من الخطوط الغامضة بدأت تتوضح معالمها. وما كان يقال في «السر» انتقل إلى العلن ولم يعد بامكان تغطية المستور إلا بإعادة قراءة التحولات التي طرأت على البلد الصغير منذ عدوان 12 يوليو/ تموز الماضي.
ماذا حصل في لبنان بعد العدوان؟ هناك الكثير من التطورات لابد من النظر إليها لرؤية المشهد السياسي عن بعد وأهمها ما جرى في الجنوب. فهناك انتشرت طلائع القوات الدولية (اليونيفيل) إلى جانب ألوية الجيش اللبناني وتسلمت المواقع التي كان يشغلها حزب الله أو تلك التي احتلها العدو. وجاء الانسحاب ومن ثم الانتشار في سياق قرار دولي حمل الرقم 1701 الذي ينص على فقرات كثيرة أبرزها اقفال الحدود اللبنانية - الإسرائيلية ومنع قيام عمليات عسكرية من الطرفين. فالقرار لا يسمح للعدو بالاعتداء ويمنع المقاومة معاودة نشاطها ولكنه يعطي تل أبيب حق «الدفاع عن النفس» في حال رأت حكومة إيهود أولمرت أن أمنها يتعرض للاختراق.
هذا التحول يعتبر نقطة مفصلية في مجرى الحرب الأميركية - الإسرائيلية على لبنان. ومن هذه النقطة تعتبر حكومة أولمرت أنها حققت انجازاً سياسياً على رغم البهدلة الميدانية التي تلقتها في المواجهات المباشرة مع رجال حزب الله. وعلى أساس هذه النتيجة السياسية المعاكسة للتوازن السلبي الذي انتجه التصادم العسكري على الأرض تحاول تل أبيب البناء عليها لاستعادة هيبتها الداخلية وسمعتها الدولية كذلك تراهن عليها لزعزعة الاستقرار اللبناني وتفكيك العلاقات الأهلية وبعثرتها إلى دويلات طوائف.
تل أبيب تعتبر أنها انهت مهمتها في الجنوب وانتقمت من انتصار حزب الله بتحطيم البنى التحتية للدولة وتفكيك البنية السكانية للمقاومة واغراق لبنان في مشكلات حياتية ومعيشية وردود فعل على تداعيات سياسية متصلة بالتعويضات وورش البناء وخطة إعادة الإعمار. وعلى هذا التصور يرى أولمرت أن حربه حققت نصف المهمة من خلال توفير سياج آمن (جدار دولي) يحمي حدوده الشمالية من الاختراقات وعمليات المقاومة. وهو يراهن منذ الموافقة على وقف إطلاق النار في 14 أغسطس/ آب الماضي على الهزات المرتدة لتلك الحرب العدوانية.
فأولمرت ينتظر منذ نحو أربعة أسابيع انجاز النصف الثاني من المهمة وهو يراهن على احتمال انزلاق لبنان نحو حرب داخلية تحرق ما تبقى منه وما عجزت طائراته ومدفعيته عن تحطيمه وتدميره.
المراهنة الإسرائيلية على تمزق لبنان الأهلي لم تكن في محلها ولكنها ليست مستبعدة إذا تواصل التراشق الاتهامي والتخوين وعدم رؤية الواقع كما هو والابتعاد عن قراءة ما حصل من تطورات وتحديداً تلك النقطة المتصلة بالجنوب اللبناني والحراسة الدولية للحدود.
المخاطر الأهلية
استبعاد التصادم الداخلي من السيناريو يحتاج فعلاً إلى جهود جبارة من مختلف الأطراف ويتطلب العمل على تطويق تلك المنابر الإعلامية التي تزايد لفظياً لتغطية النفخ اليومي في نار الفتنة المذهبية لحسابات طائفية تطمح نحو استعادة امتيازات فقدتها خلال العقود الثلاثة الماضية. لذلك فإن السيناريو الذي ظهرت عناصره بقوة قبل وخلال وبعد زيارة بلير يرجح أن ينفتح على الكثير من التداعيات الخطرة في حال استمرت الحسابات تتجه نحو مراهنات خاطئة. فأي خطأ في التقدير في رؤية الدولة لموقعها ودورها أو رؤية المقاومة لوظائفها ومهماتها سيؤدي إلى تهشيم الكيان السياسي وتشطيره إلى مناطق جهوية وفئوية. وهذا يعني في المعادلة العامة أن كل الاطراف ستنتهي إلى خسارة. فالدولة ستخسر البلد والمقاومة ستخسر لبنان والمستفيد الوحيد هو أولمرت وتلك الفئات الطائفية والمذهبية التي ترى في صيغة التعايش انتقاصاً لامتيازاتها.
الخلافات الآن انتقلت إلى السطوح بعد زيارة بلير. الدولة ترى أن من حقها استقبال رئيس وزراء دولة عظمى تملك حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن وتتبادل مع بلاده علاقات دبلوماسية. والمقاومة ترى أن استقبال رئيس وزراء دولة مشاركة في العدوان اهانة للشهداء. الدولة إذاً لها منطقها الخاص كذلك المقاومة. وهذه نقطة خلاف مشروعة. المشكلة تبدأ ليس من الحق في اختلاف المنطق وانما في مصادرة كل فريق لدور الآخر. وهذا النوع من المصادرة السياسية في بلد طائفي/ مذهبي يعني الكثير من السلبيات التي تدفع البلد نحو المزيد من الاستقطابات الأهلية.
المشكلة في لبنان تبدأ من هنا. فهذا البلد المركب من خليط متنوع من الطوائف والمذاهب يجعل من أي خلاف سياسي نقطة توتر أهلية ويؤسس فوراً خنادق داخلية تزعزع أركان الكيان وتطيح بالدولة والمقاومة معاً. وعلى هذه المسألة يراهن أولمرت في الجزء الثاني من مهمته التي لم تكتمل.
لبنان لم يكن بحاجة إلى بلير لاظهار تعارضاته السياسية. لكن الزيارة كشفت المستور من الأوراق وأوضحت الكثير من المخاطر التي تنتظر هذا البلد الصغير في حال استمر السير في طرقات فرعية لا تتقاطع على نقاط مشتركة. ومشكلة الطرقات الفرعية في لبنان أنها تودي بالحياة السياسية إلى زوايا طائفية ومذهبية من الصعب ان تتوحد في أجواء مضطربة وعواصف تهدد المنطقة. وبسبب هذه الخصوصية تشكلت في لبنان السياسة في دوائر طائفية ومذهبية ونهضت الانقسامات على أسس لا علاقة لها بعالم الأفكار والايديولوجيات.
فأحزاب ما يسمى «8 آذار» أو ما يسمى «14 آذار» هي في النهاية نتاج هذه التركيبة المذهبية/ الطوائفية وواقعها المنشطر إلى ملل ونحل وهي بعيدة كل البعد عن تلك الأغطية الفكرية والايديولوجية. فأحزاب «8 آذار» تشكل نحو 50 في المئة من اطياف المجتمع كذلك أحزاب «14 آذار» وما تبقى من هذا «النحو» يمثل شريحة هزيلة من المثقفين أو النخب تبحث عن مكان ودور وأقنعة لا طعم لها ولا رائحة.
الانقسام في لبنان ليس سياسياً في باعتبار أن الصيغة التي اتفق عليها في اربعينات القرن الماضي لم تنجح في تحديث العلاقات الأهلية ورفعها إلى طور المجتمع/ الدولة.
وبما أن الدولة تعتبر ما دون الطائفة والمجتمع لايزال في طور ما قبل الدولة فإن حال الانقسامات ستبقى تخضع لتوازنات القوى المذهبية والمناطقية في لبنان.
هذا الواقع حتى الآن هو المسيطر في تحريك المشاعر والاحاسيس والعواطف وأي قراءة مختلفة ستؤدي إلى حسابات خاطئة في التقدير السياسي بغض النظر عن النتائج التدميرية لما تبقى من البلد الصغير.
زيارة بلير شكلت مناسبة للكشف عن قلق يسيطر على مختلف القوى والاطياف. ولعل هذا الشعور يشكل بداية وعي بمخاطر تنتظر الجميع في حال استمرت القراءات في إطار حسابات خاطئة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1469 - الأربعاء 13 سبتمبر 2006م الموافق 19 شعبان 1427هـ