في الكلام على الحرية ثمة فضاءان: فضاء مصطنع تتيحه لك السلطة كي تمارس تفريغ يأسك في الشارع الذي خرجت منه وتعود اليه، وآخر غير مسموح لك فيه، أن تحيل الشارع نفسه الى قيمة كبرى تبدأ منها لتعرية وفهم ما تحاول السلطة أن تزجّك فيه.
الحرية في نهاية الأمر، قدرة كل واحد منا على إطلاق حواسه لاختبار وقياس مكر تمارسه أكثر من سلطة، وما لم يحدث ذلك تصبح الحرية فيلماً وثائقيّاً أقل قدرة على الصمود أمام ماضيه، عدا عن قدرته على الصمود أمام مستقبل يفاجئه بحواس إضافية.
أفهم الحرية: محاولة لبلوغ الحد الأدنى من حق أصيل في عالم يذهب في أقصى درجات حجبه ومصادرته وتقريره إلى الأدنى من ذلك الحق.
تكون حراً حين تقرر أن تخرج من هذه الملهاة المحاصرة بالعسس والليل والكلاب. أن توقّتَ ساعة موتك! لحظتها لن تغفر لك السلطة هذه الجرأة في الخروج عليها، وستعمل على مطاردتك وأنت مكلل بشاهد قبر!
أفهم الحرية، قدرة على إعادة تشكيل وإدارة فوضى لا تحبذها السلطة!.
هل السلطة بهذا المعنى فوضى؟ إذاً ما الذي يدفعها دفعاً الى التمسك بنظام تتبرأ منه حتى الفوضى أحياناً؟!
لا أحد حرّ في التعاطي مع حريته هكذا تكرّس السلطة لفهم يتناسب وسطوتها، لكنها في الوقت نفسه تتناسى أنها تتعاطى بحرية مطلقة في حجب ومصادرة ذلك الحق!. أن يتنازل أي منا عن حقه في التعاطي مع حريته في ظل يأس لا مكان للأمل فيه.
في الحرية قيمة الخيار، وفي الخيار قيمة الرصد والفرز، وفي الفرز قيمة الانحياز، وفي الانحياز - بعد كل ذلك قيمة وحق الاتهام. اتهام الضالعين في صناعة محيط مشبع بالخوف والمصادرة. باختصار: «لنا حق» في أن نكفر حتى بخياراتنا!
في الكلام على الحرية، في عالم مليء بالمرضى والمصابين بالصرع، يتضح الآتي:
لك الحق في أن ترفع صوتك في الشارع، ولكنك مطالب بأن تكون رسولا للصمت حين تتجاوزه.
لك الحق في أن تذهب عميقا الى الشارع، فقط حاول ألا تُستدرج الى العميق منه.
في الكلام على الحرية اتضح الآتي:
شعوب تمثل متاريس في حال تعرضت الدولة لصدمات، ومن بينها الصدمات العاطفية.
الدولة في نهاية المطاف، مشروع يأس، فيما من المفترض أن تكون مشروع أمل! ما الذي يجب على الرعايا أن يفعلوه في هكذا مأزق؟. أن يتبرأوا من هكذا رعاية، ويسهموا في حال من تأسيس حالين: يأس تكون معه في حال وفاق، ويأس يحرج الثابت من الدولة والتأسيس.
الدولة في نهاية الأمر صورة من وهم كبير ومستفحل! هل على الرعايا أن ينذروا أنفسهم لعراء نهائي؟ ربما.
في الكلام على الحرية، تحاول أن تكون أكثر عرضة لليأس. بمعنى أن تكون أكثر عرضة لتجاهل كل هذا الهراء المقنن!
في الكلام على الحرية نسأل: ما الذي يدفع بنا الى تصديق أننا رعايا لهم من الحقوق ما لهم، وعليهم من الواجبات ما عليهم؟. حتى تلك المرحلة من الإملاء والفرض، فيما يتعلق بالواجبات، فشلت السلطة في اقناعنا بأننا جزء من إملاءاتها.
في الكلام على الحرية، من الخير لك أن تأوي الى ركن قصي، وتعمل على إحصاء هوسك وَصَرَعك وانتمائك الذي لم يكن مقدراً له أن يحدث لولا العسس وأشياء أخرى
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1469 - الأربعاء 13 سبتمبر 2006م الموافق 19 شعبان 1427هـ