شكّل صيف 2006 إنجازًا مهمًا للوسائل الإعلامية العربية. تورّط كل من «إسرائيل» وحزب الله في نزاع أليم أسفر عن مقتل أكثر من 150 إسرائيلياً، ونحو 1000 لبناني، ثلثهم من الأطفال. حمل كلّ يوم صورًا وحشية جديدة لإصابات المدنيين.
على التلفزيون الأميركي، قام الروّاد من الصحافيين على غرار المقدّمين المشهورين في محطة سي إن إن (CNN) أندرسون كوبر وجون روبرتز، باستخدام مفردات «إرهابيين» أو «ميليشيا إرهابية» في الإشارة إلى حزب الله، من دون حتى أن يتكلّفوا بنسب تلك الصفات إلى المصادر الإسرائيلية أو الأميركية. ولكن نادرًا ما استُخدمت تلك اللغة خلال بث المحطات المتفرّدة بنقل الأخبار، والسائدة في العالم العربي على غرار «الجزيرة» و«العربية».
ما يثير السخرية طبعًا، هو أنّه سبق وأُدينت «الجزيرة» من قبل إدارة بوش لاستخدامها مفردات مثل «شهيد»، «عدوان»، «إرهاب» في وصفها الاجتياح الأميركي للعراق. فعلى الصحافيين العرب ألا «ينحازوا»، تمامًا كزملائهم في أميركا، هذا ما ردّدته واشنطن بشكل دائم.
«لا مكان لمفردات: إرهاب، وإرهابي، في معجمنا» هذا ما قاله لي مدير التحرير في محطة «الجزيرة» أحمد الشيخ، الصيف الماضي حين بدأ تطبيق وقف إطلاق للنار غير مستقر تمامًا في جنوب لبنان. «نستخدم تلك المفردات فقط عندما نقتبس كلامًا عن أحد».
كذلك لا تُنسب كلمة شهيد إلى المدنيين أو المحاربين الذين قُتلوا. حتى الآن، يتم تداول تلك المفردات في البرامج الحوارية على «الجزيرة»، التي تشبه المهرجانات الصاخبة في الولايات المتحدة، ولكن تمّ حذفها رسميًا من النشرات الإخبارية.
في «العربية»، بدا الوضع مماثلاً. «نستخدم كلمة مقاتلي، وأحيانًا مجاهدي حزب الله، ولكن لا نستخدم عبارة «مقاتلون في سبيل الحرية»، أخبرني المحرّر التنفيذي نبيل الخطيب. «لقد وافقنا على عدم اتخاذ موقف واضح داعم لحزب الله. فنحن نغطّي هذه الحرب كما هي».
اتخذت «العربية» خطوة إضافية بفرضها حظرًا كليًا تقريبًا على إظهار جثث القتلى، وهي خطوة ثورية في ثقافة الإعلام العربي حيث تهرع الكاميرا نحو إظهار الجروح.
تذكّر الخطيب تقريرًا عن نتيجة غارة جوية إسرائيلية استهدفت مبنًى في مدينة بعلبك في سهل البقاع اللبناني. تضمّنت ساعة التصوير الأوّلية التي تلقّتها المحطة في مقرّها الرئيسي في دبي «أشلاء جثث وأقارب يحملون أجزاء الجثة في أيديهم ويظهرونها أمام الكاميرا. كان موقفًا جنونيًا. وقد شعر بعض الزملاء بغضب شديد من جرّاء ما حصل، وشعروا بأنّه علينا إظهار الصورة».
في نهاية الأمر، ووفقًا لطلب الخطيب، عرضت المحطة «لقطة، مدّتها ثلاث ثوان، لجثة من دون إظهار التفاصيل».
لقد انتُقدت كلّ من «العربية» و«الجزيرة» بعنف على تلك المقاربة الجديدة، من قبل المشاهدين والزملاء من الوسائل الإعلامية العربية، إذ تنتشر إثارة العواطف ويسود التشويه وتحريف الخبر. «فقد تلقّينا مئات الاتصالات من المشاهدين الذين سألوا، لماذا لا تدعون القتلى المدنيين في لبنان شهداء؟» يقول الشيخ، وهو من أصل فلسطيني. «شخصيًا، صعب عليّ كثيرًا تفسير المسألة، ولكن تلك هي سياسة المحطة».
طبعاً، لا يمكن تخطّي السياسات العربية في أي تفسير لتلك المقاربة الأكثر «مسئولية». فأمير قطر هو الذي أسّس «الجزيرة»، أما «العربية» التي بدت كأنها تقلّل من أهمية النزاع في مراحله الأولى، تشكّل جزءًا من إمبراطورية إعلامية يملكها أحد أفراد العائلة المالكة السعودية. يشكّل البلدان غالبية سنية من المسلمين، بينما حزب الله هو شيعي. فقد أدان رؤساء الدولة السّنة في المنطقة خطف حزب الله للجنديين الإسرائيليين، كونه شكّل الفتيل الذي أشعل الحرب، إذ يرى البعض أنها جزء من استراتيجية إيران الشيعية لدعم مركزها في المنطقة على حساب البلاد السنية مثل مصر والأردن والعائلات المالكة في الخليج.
أجبر الرأي العام العربي أخيرًا - المتأثر بالتغطية الإعلامية للنزاع - القادة السنّة على التراجع، وإدانة الاجتياح الإسرائيلي، ودعم حزب الله ضمنيًا. ولكنّ مستوى التغيير الحاصل في سياسات «الجزيرة» و«العربية»، يشكّل بدوره فصلاً جديدًا لا يمكن استبعاده من تطوّر الصحافة العربية. إلى حين تأسيس «الجزيرة» منذ عشر سنين، كان لايزال مصطلح «الصحافة التلفزيونية» يجمع بين معنيين متناقضين في العالم العربي. إذ كانت الحكومة تملك جميع المحطات. أما الآن، فهناك جوّ جديد من الاستقلالية والاحتراف، أو أقلّه طموحاً لذلك.
عندما قمت بزيارة مقرّ «الجزيرة» الرئيسي في يونيو/ حزيران، كان الشيخ بالإضافة إلى زملائه من محطة الجزيرة الفضائية الدولية (Al-Jazeera International) التي سيتم إطلاقها قريبًا، وهي المحطة الشقيقة لـ «الجزيرة» وإنما تبث باللغة الإنجليزية، منهمكين بإعداد مجموعة جديدة من المقاييس والتحضيرات التي تتضمّن قاموسًا للمصطلحات المعتدلة، والتي على الصحافيين من المحطتين استخدامها لوصف العنف المستمر في المنطقة.
عند جهوزها، قد تطلب المحطات الأميركية الحصول على نسخة منها.
لورانس بنتاك
مدير مركز أدهم للصحافة الإلكترونية في الجامعة الأميركية في القاهرة، والمقال ينشر بالتعاون مع خدمة «كومن غراوند
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1468 - الثلثاء 12 سبتمبر 2006م الموافق 18 شعبان 1427هـ