العدد 1466 - الأحد 10 سبتمبر 2006م الموافق 16 شعبان 1427هـ

يهود إيران... بين دولة «شوشندخت» ومشروع «هرتزل»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الأكيد هو أن ملف الأقلّية اليهودية في إيران لا يحظى بأي اهتمام سياسي أو إعلامي أو حتى ديني يُذكر على رغم أن تلك الأقليّة هي أكبر كتلة بشرية «يهودية» في منطقة «الشرق الأوسط» بعد الكيان الصهيوني، بل إننا في هذا المطلب لا نتجاوز إذا ما قلنا ان هذا التأجيل الإرادي لأوضاع اليهود في إيران تاريخاً وحاضراً يُشكل مطلباً مهمّاً للنظام الإسلامي الحاكم في طهران رغبة منه في مجانبة أي صِدام مع الغرب بشأن ذلك الملف، مع إدراكه العميق بأهمية تلك الورقة في المنعطفات السياسية والاقتصادية، وهي الرغبة ذاتها التي يحرص عليها الكيان الصهيوني أيضاً لاقتناعه بأن أي تحريك لذلك الملف سيعني مزيداً من الضغوط على الأقلّية اليهودية في إيران والتي لا يتجاوز تعدادها ثلاثين ألف شخص، وبالتالي إنهاء ذلك الوجود التاريخي الذي يمتد إلى أكثر من 2100 عام، وخصوصاً أن العداء الإيراني الصهيوني يفرض على تل أبيب أن تحافظ على وجود تلك الكتلة كاحتياط بشري يخدم أي صراع قادم بحسب منظورها، مع تزايد الضغوط الدولية على إيران، لذلك فإن تل أبيب لم تطالب في السنوات الأخيرة بهجرة يهودية إيرانية إليها، بعد النزوح الواسع ليهود إيران بين العامين 1979 و1986 والتي فاقت خمسين ألف مهاجر.

أرض كورش

ترتبط المقدسات اليهودية بالأرض الإيرانية وبالتالي الوجود اليهودي فيها بدفن النبي حبقوق في تويسركان بعد أن عاش في همدان نفياً قسرياً، وأيضاً بدفن بنيامين ابن يعقوب (ع)، وقد تأسسّت الأفكار اليهودية المتماهية مع قداسة الأرض الفارسية بالعلامات التاريخية والسوسيولوجية في الأسفار العزرائية والنحميائية، ومع مُسَيّا اليهود الملك كورش الذي فتح أرض بابل وحرّر بني إسرائيل من ظلم عظيم.

وإبّان الحكم الصفوي وتحديداً إبّان حكم الشاه عباس تعرض اليهود لحملة إقصاء وتهميش غير مسبوقة، فأرغموا على اعتناق الإسلام، وتمّ حرق كنائسهم، ومُنعوا من العمل بالتجارة ومن حمل السلاح ومن دخول المدن بعد الغروب، ولم يعد يُعترف بشهادتهم، بل ذهب الأمر بالحكّام الصفويين إلى أن يمنعوا اليهودي من الخروج في الأيام المُمطرة لكي لا تتنجّس الأرض! فهاجر عدد كبير منهم إلى الدولة العثمانية التي كانت في عداء مفتوح مع الدولة الصفوية، لكن هذه الحملة خفت بعد انهيار حكم الصفويين . وبعد قيام ثورة المشروطة، سمح دستور 1906 لليهود في إيران بالترشيح وعضوية البرلمان، ثم زادت مساحة الحرية المُعطاة لهم بعد سقوط حكم رضا شاه ومجيء ابنه إلى السلطة بواسطة قوات الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور، فنشطت الوكالة الصهيونية في إيران، وتقلّدت بعض الشخصيات اليهودية مناصب مُهمّة في الدولة وفي بلاط الشاه محمد رضا بهلوي وذلك بتزكية مُطلقة من التيار البهائي الذي كان مُتنفذاً في البلاط الشاهنشاهي، وبدأ اليهود يتحكمون في الحركة التجارية والاحتكارية لإيران، وعندما أسرف الشاه في علاقته مع الكيان الصهيوني وخصوصاً في مجال النفط كان لليهود الإيرانيين الدور الكبير في تنشيط سمسرة نقل المنتجات النفطية الإيرانية إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية عبر ميناءي حيفا وعكا المُطلين على فضاء البحر المتوسط، وقد بلغ اعتماد تل أبيب على النفط الإيراني في مرحلة من المراحل 90 في المئة، وفي المقابل بلغت قيمة البضائع الصهيونية المُحمّلة إلى طهران أيام الحكم البهلوي أكثر من ثلاثمئة مليون دولار.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية وقيام الحكم الثوري ساءت العلاقة بين يهود إيران والنظام الجديد الذي دخل في عداء مُستحكم مع الكيان الصهيوني بصراع مفتوح معه عبر الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، وقد انعكس ذلك بقوة على أوضاع اليهود الإيرانيين فهاجر أكثر من خمسين ألفاً منهم إلى تل أبيب وإلى أوروبا وأميركا، لكن أوضاعهم عادت فاستقرت إلى حدّ ما بعد إعلان الدستور الإسلامي الجديد الذي اعترف بهم كأقلية دينية، سُمِح لها بالتمثيل النيابي عبر مقعد واحد وبممارسة دينية وطقوسية أفضل وتشكيل مجتمع مدني ومؤسساتي تنتظم فيه الأقلية اليهودية الموجودة في طهران وإصفهان وشيراز ويزد ومشهد وهمدان وهي المدن التي يتركز فيها الحضور اليهودي. لكن العلاقة بقيت حذرة ومحكومة بالأجواء المتوترة في المنطقة وبالسياسة المُؤدلجة للجمهورية الإسلامية تجاه الكيان الصهويني، لذلك فقد حرص يهود إيران على إبعاد أنفسهم ما أمكن عن سياسات تل أبيب ومواقفها المُعلنة تجاه القضايا الإقليمية والدولية، على رغم أن الحكم الجديد سمح لهم زيارة فلسطين المحتلة عبر تركيا من دون موانع.

اليهود ومحيطهم الثوري

استفاد الحكم الإسلامي الجديد بعد الثورة من اليهود الإيرانيين كورقة نوعية رابحة يُحرّكها في أزماته مع الغرب، ففي حقبة الثمانينات وإبّان الحرب العراقية الإيرانية وما تلا ذلك من فرض الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا لحصار اقتصادي خانق على طهران، وظّف يهود إيران علاقتهم التجارية وحتى العائلية مع أرباب المال اليهودية الناشطة في العالم من أجل كسر ذلك الحصار، لحصول الحكومة الإيرانية على السلاح والأجهزة الدقيقة ومنتجات الغذاء الضرورية، وقد كان ذلك باباً مهمّاً للحكومة الإيرانية التي كانت تعيش أزمات سياسية واقتصادية حادة، كما أنهم (أي يهود إيران) وعلى رغم وجود الخيط الرفيع بينهم وبين يهود العالم الذي يُقرّون في غالبيتهم بدويلة الكيان الصهيوني إلاّ أنهم حافظوا على استقلاليتهم من الناحية الوطنية وحتى الايديولوجية المُرتبطة بتاريخهم التوراتي على الأراضي الإيرانية، وقد أفاد ذلك طهران كثيراً من ناحية كسر احتكار القضية اليهودية وإذابتها في المشروع الصهيوني من قبل تل أبيب، لذلك فإن طهران وفي تلك المعادلة دفعت باتجاه تحييد الأقلية اليهودية أكثر وتطويعها ما أمكن وذلك عبر السماح لها ممارسة سياسية ودينية في المجتمع الإيراني، فمُثّلوا في البرلمان بنائب واحد، وسُمح لهم متنفّساً إعلامياً عبر صحيفة «يوليو»، وبلغ عدد المعابد اليهودية في إيران أكثر من ثمانين كنيساً، ولديهم الكثير من المراكز الاجتماعية والصحية، بل إن إيران تضم واحداً من أربعة مستشفيات يهودية في العالم ممهورة بطابع ديني صرف، وفي موضوع الحرية الشخصية لم يُلزم قانون توحيد الزي النسائي الإيراني المصدق عليه من مجلس الشورى الإسلامي الأقليات الدينية بما فيها اليهود، كما أفاد بذلك عضو الأكثرية المحافظة عماد أفروغ، كما سُمح لهم هامشا من الحرية للحديث عن القضايا الداخلية والإقليمية والدولية إلى الحد الذي وصف فيه زعيم الطائفة اليهودية في إيران هارون ياشائي الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بالجهل والتحيز السياسي، بعد إنكاره محرقة الهولوكوست، وكذا الحال بالنسبة إلى لأب الروحي ليهود إيران الحاخام يديديا شوفط وممثلهم في المجلس النيابي موريس معتمد.

وأعلنت الحكومة الإيرانية حديثاً تسييرها خدمة إذاعية باللغة العبرية مدتها نصف ساعة يومياً، تحت مُسمّى «صوت داوود» تستهدف اليهود داخل الكيان الصهيوني، بل إن الأحكام التي صدرت عن محكمة شيراز ضد خليّة التجسس اليهودية في إيران خُفّفت إلى سنتين وست سنوات بعد أن كانت الأحكام تتحدث عن ثلاثة عشر عاماً، مع احتساب المدد التي قضاها المحكومون في السجن والتوقيف منذ اعتقالهم في العام 1999. اليهود الإيرانيون بدورهم أيضاً تناغموا إلى حدٍ ما مع الواقع الجديد، والتوجهات السياسية للحكم الإسلامي القائم فأدانوا الحركة الصهيونية، وحركات التحرر الفلسطينية، كما أنهم أيّدوا المشروع النووي الإيراني، بل إن المواءمة الحذرة التي تقوم بها الأقلية اليهودية في الداخل الإيراني تُعبّر عن سياسة مدروسة قادرة على التعاطي مع متطلبات الداخل والخارج، والأمر نفسه ينطبق على الحكومة الإيرانية وسياستها الخارجية

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1466 - الأحد 10 سبتمبر 2006م الموافق 16 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً