هو ذا النصر الوحيد الذي يرفض الآباء غير الشرعيين، أن يكون نصرا للشرفاء فحسب، فإذا كانت القاعدة أن لكل انتصار ألف أب وأن الهزيمة يتيمة لا أبا لها، ففي هذا الحدث تنعكس المقولة رأساً على عقب، في نصر المقاومة الإسلامية في لبنان سارع الكثير من الكتاب والمحللين السياسيين لتبني موقف الهزيمة والنكسة وترسيخها في لاشعور الأمة، ليخدعوا العالم باستمرار أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فانفضوا وابتعدوا ونأوا بأنفسهم عن هذا النصر، وبقي الأب الشرعي لهذا النصر وكوكبة من المنصفين يتمسكون به ويدافعون عنه ويأبون أن يُلقوه استجابة لأدعياء الهزيمة.
لقد قرأت للكثير من الكتاب المخضرمين وهم يتحدثون عن أعداد الجسور التي هدمت والعمارات التي نسفت والأبنية التي أصبحت أثرا بعد عين، ورأيتهم يوغلون في لغة الأرقام، فيتحدثون عن ملايين الدولارات التي خسرها لبنان، وعن الملايين التي يجب عليه اقتراضها بعد أن وضعت الحرب أوزارها، فتأملت في ثقافة الإحباط والتهويل والتخويف التي يحاولون تكريسها في عقل الإنسان العربي والمسلم ليبدأوا سرد قائمة طويلة لأعداد القتلى والجرحى والمعوقين والنازحين.
إنني لست مقتنعا بأن الطيران الحربي الإسرائيلي نجح بهمجيته وقصفه الذي لا يرحم أن يفرض ثقافة الاستسلام على الكثير من الأقلام التي هرولت تسبح وتقدس بالأهوال التي صنعها، ولتحمد الله على أننا هزمنا كما تصورت، فهي ليست بهذا التسطيح والبساطة والسذاجة، إن حديثي هنا هو عن مثقفين وإعلاميين مقتدرين كانت أقلامهم بالأمس القريب نابضة بالمعارضة والتمرد والتحرر وأحياناً الثورية، أقلام قرأ أصحابها عن تحدي الشعوب للهيمنة الاستعمارية في مختلف الحقب والمفاصل التاريخية، لذلك يصعب عليّ أن أُصدق أنهم يقيسون النصر والهزيمة بعدد الشهداء والقتلى (وفي نغمة جديدة بخسارة الموسم السياحي وعدد الجسور والمباني التي هدمت؟).
نحن الآن في فترة حرجة تستوجب أن نتفهم لماذا لا يقرُّ البعض فيها بهذا الانتصار، ولماذا يؤكدون معنى الهزيمة ويثبتونه في العقول؟
إنني ومن موقع الاحترام لعقولهم أعي حرجهم وأتفهم إنكارهم لهذا النصر، ومحاولاتهم المستميتة لتأكيد الهزيمة، وألتمس لهم أسباباً أُخرى، ربما تكون أقرب إلى القبول وإن كانت لا تصلح عذرا لما ذهبوا إليه.
أتصور أن الاعتراف بالنصر باهظ التكاليف، والتسليم به ثمنه غال وكبير، لأن مؤدى التسليم بالنصر للمقاومة والهزيمة للعدو الإسرائيلي تعني أن جزءاً بسيطاً من الأمة حين بلور إرادته وصدق في تحديه وأخلص جهده وجهاده استطاع أن يلحق الهزيمة بجيش من أقوى الجيوش في العالم، وهذا يعني ( في التفاصيل ) أن للشعوب قدرة ولإرادتها مردوداً، ولعزيمتها مكاسب، ولإصرارها ومثابرتها نتائج، وهذا ما لا ترضاه مجمل منظومتنا العربية، ولا تريد ترسيخه، ولا تثبيته في النفوس، لأنه مناقض للبناء الذي تستمد منه هذه المنظومة حياتها واستمرارها وبقاءها صالحة للعمل.
منظومتنا العربية قائمة على تبعية الشعوب واستضعافها وقهرها، وسوقها بالاستهبال والاستحمار، وهذا لا يتم إلا بتأكيد الهزيمة في نفوس أبنائها، واستدعاء مفردات الفشل والعجز، واستمرار منطق الهوان والجلد للذات العربية باعتبارها في نكسة جديدة، معالمها واضحة(بحسب منطق الهزيمة) في العمارات المنهارة والجسور المدمرة، والموسم السياحي الضائع، والأرواح المفقودة، كما لا يتم ذلك إلا بالاستهتار والتهكم والسخرية بالمفردات البديلة وهي العزة والكرامة والمقاومة والصمود والتضحية والشهادة، واعتبارها جزءاً من ثقافة التخلف والضياع وعدم المسئولية.
من زاوية أخرى فإن الحديث عن النصر هو حديث عن صانعه ومهندسه ومنتجه، وهو حديث عن حزب الله ذي الطعم واللون والرائحة المعروفة، وهذا مخيف ومثير لأصحاب الأفق الضيق، والسبب أن لهذا النوع من الحديث محاذيره المعلومة التي لا تخفى على كل ذي لب وفطنة، فثقافة المنتصر تمتلك قدرة الامتداد والزحف والتأثير، أراد المنتصر لها ذلك أو لم يرد، سعى واعدّ من أجلها أم تواضع وأهدى انتصاره إلى هذا وذاك، طمأن الآخرين أم سكت واكتفى بفعله على الأرض.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن خوفاً كبيراً يلحظه القارئ للصحافة بوضوح لدى بعض الأقلام الليبرالية، التي عرفت بالانفتاح والسعة في الأفق والتعامل مع الكيانات بمستوى فاعليتها وإنتاجها على الأرض، بعيداً (كما كانت تدّعي) عن أفكارها ومعتقداتها وتدينها، لكنها الآن تتعامل مع هذا النصر بحال من الفزع وعدم الراحة، فتشوهه وتحجمه وترفض الاعتراف به، لكي لا تتمكن الحال الدينية من التهام الساحة الجماهيرية عنها، والتأثير على الشعوب بفكرها وثقافتها المقاومة.
نعم بقيت أصوات محترمة تقف بعدل وإنصاف إلى جانب النصر في عالمنا العربي والإسلامي لكي لا يضيع في المتاهات الصغيرة والطرق الضيقة، وإني لأستحضر هنا كلمات إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد، كما نقلتها صحيفة «الحياة» بتاريخ 2/ 9/ 2006 إذ قال: «إن من أعظم الدروس والعبر في الأوضاع الأخيرة في فلسطين ولبنان ونتائجها، الانتقال النفسي من ثقافة الهزيمة والاستسلام وعقدة الضعف والعجز، إلى الوقوف بقوة أمام مشاريع الهيمنة والغطرسة والنيل من كرامة الأمة، ووجود مراجعات تبين للأمة الموقع الصحيح من القوة ومن السلام، بل تؤكد ان الدعوة إلى السلام وقبوله لا يتعارضان مع القوة وأخذ الاهبة والاستعداد». وقال أيضا: «إن هناك دروساً كبرى بل مبشرات بفجر جديد لا شرق أوسط جديد، يترسخ فيه مفهوم القوة بمعناها الشامل... قوة الدين والإيمان، وقوة العلم والفكر، وقوة الإرادة والتصميم والعزم، وقوة السلاح والعسكر والعدة، قوة السياسة وقوة المفاوضات، وقوة القناعة التامة بالحقوق الكاملة».
إن التنكر للانتصار خدمة مجانية لا يقدمها العقلاء عادة إلى أعدائهم
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1466 - الأحد 10 سبتمبر 2006م الموافق 16 شعبان 1427هـ