أخيراً رفع الحصار البحري والجوي عن لبنان. فهذا الجبل يعشق البحر ويحب المغامرة ويقاتل من أجل الحرية. وبحكم موقعه المطل غرباً على المدى المائي وشرقاً على المدى الرملي تكونت في تاريخ هذه الجغرافيا المعقدة في هضابها ووديانها ثقافة مركبة من روافد متنافرة لم تنجح الدولة في مزجها في وحدة صلبة. وحتى الآن لايزال هذا البلد الجبلي الصغير يقاوم الفشل بعد الفشل. فالصيغة حتى اللحظة لاتزال فاشلة ولم يتعلم شعبه من تجاربه القاسية والامتحانات الصعبة التي يتعرض لها من دون انقطاع.
التجربة الأخيرة التي بدأت في 12 يوليو/ تموز كانت من العيار الثقيل وكان على هذا البلد الصغير أن يتحملها لأن لا خيار لديه سوى هذا الخيار. وغير ذلك يعني دخول لبنان في سياق آخر يدرك بعضه ولا يدرك جله.
معركة رفع الحصار كانت اختباراً أضيفت إلى مدى قدرة هذا البلد على التحمل مضافاً إلى مدى تجربته في التعامل السياسي مع هذا النوع من الظلم الذي لا يقوى مثل هكذا بلد على تحمله. ونجح لبنان في معركة رفع الحصار وهي نقطة تسجل له في مختلف تكويناته واطيافه ومراكز قواه السياسية والدبلوماسية والنيابية. فالنواب قادوا المعركة وليس الجنرالات. وهذه المسألة تعتبر إشارة قوية لكل تلك الأنظمة التي تعتمد الثكنات وليس البرلمانات أساساً للدولة.
يمكن قول الكثير من «الشعر» و«الادب» عن معركة رفع الحصار إلا أن لبنان يعشق السياسة أيضاً. والشعب مسيس إلى النخاع الشوكي. ولكن شوكة السياسة عنده تقوم على عصبيات لم تنجح في تجاوز الأطر الطائفية والمذهبية والمناطقية. وربما السبب يعود إلى تكوين لبنان الجغرافي الذي يقوم على اوصال مقطعة على هضاب تشكلت منها ذهنيات ثقافية محلية غير موحدة على هوية جامعة أو متفقة على صيغة مشتركة لمعنى الدولة وموقعها ودورها. وهذا الاختلاف على الدولة يمكن أن نراه في اختلاف رؤية موقع المقاومة ومعناها ودورها.
هذا التنازع على تحديد الوظائف أسهم في تعطيل إمكانات البحث عن الروابط التي تجمع منطق الدولة بمنطق المقاومة. وعدم الدمج بين القوتين شكل لهذا البلد الصغير منطقة فراغ أسهمت في توليد توتر دائم منع نهوض خطة بديلة تعيد تشكيل صورة الواقع ورسم ملامح هوية تنسجم مع تحولات طرأت على البلد الصغير في العقود الثلاثة الأخيرة.
لبنان الآن رفع عنه الحصار الخارجي إلا أنه لايزال يعاني من حصاره الداخلي. فالمناطق مقطعة الاوصال والطوائف تحاصر الطوائف. الدولة تحاصر المقاومة والمقاومة تحاصر الدولة. والنتيجة هي عودة إلى المربع «الأول» وكأن لبنان لم يمر بتجربة من الوزن الثقيل وامتحاناً قاسياً يحتاج إلى وقت لتجاوز مطباته ومحارقه.
ما حصل في البلد الصغير يتجاوز كثيراً تلك الخلافات التي اعيد إنتاجها من جهات سياسية تقرأ الحاضر بعيون الماضي، ولا تفكر بابتكار آليات جديدة لصوغ مستقبل يستطيع تجاوز ما هو قائم ومنع تكرار تجارب يرجح ان تعود إذا لم تتدارك الأمور وتتم الاستفادة من التراكمات التي تجمعت من مختلف الروافد والمساقط.
لابد إذاً من قراءة أو قراءات للتجربة المرة. وكل قراءة تملك من عناصر القوة ما يكفي لاستخلاص الدروس. والقوة لا تعني حصر المطالعة بالايجابيات. فالسلبيات أيضاً جزء من القوة. فالقوة هي توازن الكفتين وصولاً إلى ترجيح كفة على أخرى حتى تستقيم الرؤية ولا تذهب القراءات باتجاه واحد يقمع الرأي الآخر. وأسوأ ما يمكن أن يتوصل اليه لبنان هو إنتاج ثقافة القمع التي لا تسمح بالاعتراض أو لا تقبل من يخالف الآخر. ثقافة الاختلاف هي ثقافة القوة التي تقوم على رؤية تنظر إلى ميزان السيئات في وقت واحد مع النظر إلى ميزان الحسنات.
أكثر من قراءة
الآن في لبنان هناك أكثر من قراءة لكل المقدمات والمسببات والأسباب والنتائج التي أسفرت عنها تجربة 12 يوليو. الدولة لها حساباتها. والمقاومة لها حساباتها. وكل طرف ينظر إلى الآخر وكأنه الجانب المعطل له لا المكمل. وفي النتيجة عودة عقارب الساعة إلى وقت تجاوزه الزمن. وبسبب هذه النزعات العصبية التي تنتج السياسة في لبنان تشكلت معسكرات ترفع شعارات محلية أقل بكثير من حجم المعركة التي خاضها البلد. فالحرب كانت ذات ابعاد إقليمية ودولية وهي أسهمت في تغيير مفاهيم وتأسيس قواعد عمل لمناهج مختلفة، بينما في لبنان لاتزال الدوائر تنتج فروقات تحاول تكييف التحولات لتخدم حلقات ضيقة لا تستطيع الخروج على بيئاتها.
القراءات إذاً لا تزال تعيد إنتاج الواقع المنقسم على نفسه. وكل المحاولات لم تبذل الجهد المطلوب لتطوير علاقات أهلية بحاجة فعلاً إلى تغيير وتعديل. فالكل متخندق في مكانه يتربص الفرصة للانتقام أو الثأر بينما الكيان السياسي تعرض إلى زلزال قوي يحتاج إلى وقت لإعادة تشكيله أو استنهاضه.
لبنان الآن لن يعود كما كان. وهذه قاعدة تشكلت خلال الحرب ويمكن الاستفادة منها لإنتاج رؤية جديدة لبلد قامت فكرته الفلسفية على ميثاق وطني يعتمد الائتلاف لتسوية الاختلاف.
الائتلاف لتسوية الاختلاف تشكل قاعدة نظرية لتأسيس قراءات لحادث كان له أثره الكبير في زعزعة أحلام غير واقعية في بلد يعيش في محيط جغرافي غير مستقر سياسياً. وعدم الاستقرار في المحيط يعني أن لبنان لن يستقر. وهذا الواقع الجغرافي/ التاريخي يتطلب فتح قنوات على داخل عوالم الطوائف والمذاهب والمناطق بدلاً من غلقها. فالدولة ليست حكراً لفئة أو طائفة كذلك المقاومة. وعدم الاحتكار يعني القبول بالآخر ورفض التهميش ومنع الاقصاء.
لبنان الآن امام حساب عسير، وهو يطل على محطة جديدة في تاريخه. فالماضي مضى وبقي المستقبل. فهل يمضي الآتي كالحاضر ام هناك فسحة من الامل تجدد روح المغامرة بحثاً عن مستقبل في زمن ضائع
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1465 - السبت 09 سبتمبر 2006م الموافق 15 شعبان 1427هـ