ينقل أحد الأصدقاء أن محاضرة عقدت في إحدى الدول الخليجية قبل أيام، تحدث فيها رجل دين يصفه البعض بأنه إسلامي «منفتح»، تحدث فيها عن العقل «الخرافي» والعقل «العلمي»، واستشهد المحاضر فيها بقصة شعبية عن الجن، ليدلل على العقل «الخرافي»، والذي كان يسعى لتقويضه لصالح العقل العلمي.
حين أتت المداخلات، قال أحدهم: تحدثت عن الجن، ونرى تعارض حديثك مع مدلولات من القرآن الكريم؟. إلا أن صديقنا التجديدي أصر على موقفه، وبدأ الدخول في لعبة التأويل.
صديقي - الذين تسنى لهم حضور الندوة - سأل المحاضر: لم تعرض لنا تعريفاً متكاملاً عن العقل «الخرافي»، سوى مثالك عن الجن، واعتبرت «الجن» خرافة لأنه «لا علمي»، ولأنه مجرد «ميتافيزيقيا»، أليس لك أن تعتبر «الوحي» أيضاً «خرافة»؟ لم يكن للمحاضر سوى أن يتلعثم في إجابته، ليصل في المحصلة إلى أن هناك اختلافاً بين لا علمية «الجن»، ولا علمية «الوحي»!.
المحصلة، كلما خرج رجل دين على «النص الديني» بما لا يزيد عن مقدار أنملة، قالوا فيه: «المجدد» و«المنفتح»، وكلما نطق رجل دين - عن طريق المصادفة - بكلمات تحررية، قالوا فيه: هو «مُنَظر الإسلام الجديد».
لم يحدث لي أن خضعت يوما ما تحت سلطة إبهار رجل دين يحاول أن يصور نفسه متحرراً أو تجديدياً البتة. إن لمرحلة «التجديد الديني» أوانها الذي أتى وانتهى من دون أن يستثمر، وما لدينا اليوم هو لا يزيد عن محاولات «تموضع اجتماعي» positioning، محاولات تنشأ كلما فقد رجل دين مقعده في مؤسسة السلطة الدينية، أو طمع آخر في المزيد من «البهرجة الإعلامية» أو التقرب من السلط السياسية الكلاسيكية.
حينما تزور البحرين بعض الأسماء الدينية التي يطلق عليها البعض تجديدية/ معتدلة/ إسلامية متعلمنة، تشغلني تلك التغطيات الموسعة، والمقابلات المطولة، كنت أسأل حقيقة ما يقدمه هؤلاء؟ أقرأ منتجاتهم وأستمع أحاديثهم، ولا أخرج بشيء سوى أنها مشروعات تلفيقية توفيقية وحسب. المسألة لا تزيد في حقيقتها عن بهرجة إعلام وبروز «أسماء» لا أكثر، ولعله «أقل» من ذلك.
منذ «صغري»، لا أثق بمفردة «التجديد»، «الجديد»، «الجدد» «المجدد» في أية «معرفة» عربية البيئة أو الإشتغال، ذلك أني كنت أقرأ «خزعبلات» الايديولوجيات منذ مئة سنة ماضية تحت العناوين نفسها، لكن ما الذي يتغير. لا شيء.
مجلة «forgen policy» الأميركية في عددها الأخير تقول: إن شتى الأديان الكلاسيكية حققت ما بين عامي 1996 و2002 مستويات انتشار تخطت مستويات انتشار العلمانية «عشرين» مرة في العالم بأسره.
إنه العالم الذي ينتصر فيه الدين. فلِمَ يذهبُ العلمانيون لمحاربة «الدين» وتغولاته في السياسة، والعالم أجمع يعيش أجواء العودة الغاضبة للدين. الولايات المتحدة نفسها - وريثة العلمنة والتنوير الأوروبي - هي اليوم مؤسسة بروتستانتية «دينية»!
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1464 - الجمعة 08 سبتمبر 2006م الموافق 14 شعبان 1427هـ