إنّ الحرب التي دامت مدّة شهر بين «إسرائيل» وإيران على الأرض اللبنانية، خلقت فرصًا مهمّة لتقدّم واعد وشامل على الكثير من الجبهات المعلّقة في الشرق الأوسط. ففي النهاية، يجب أن يتمثّل الهدف الأساسي بتأمين الظروف الأمثل من أجل سلام دائم بين «إسرائيل» وجارتيها في الشمال، سورية ولبنان.
تتعدّد الشروط لبلوغ هذا الهدف، إذ يجب أن تتضمّن إقامة حوار أساسي بين الولايات المتحدة وإيران بشأن برنامجها النووي، بالإضافة إلى مجموعة من المسائل المرتبطة بذلك، والتي تتضمن أيضاً تأثير إيران على العراق مستقبلاً، علاقات إيران مع سورية، دعم إيران لحزب الله.
عبّر رئيس الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر عن الموضوعات نفسها في مقال كتبه في صحيفة «واشنطن بوست»، بتاريخ 31 تموز/ يوليو. إنّ المصالح الأميركية والأوروبية، من دون ذكر الأوضاع الجيدة في جميع الدول العربية وفي الخليج خصوصاً، لا تتحقّق إلا عبر حوار أميركي إيراني، وليس المواجهة بينهما.
يشكّل الحوار الإيراني - الأميركي، الهادف إلى حلّ مسألة السلاح النووي الإيراني بطريقة سلمية، بحدّ ذاته مطلبًا أساسيًا لاستئناف الإجراء السلمي في الشرق الأوسط المرتكز على مبدأ الأرض مقابل السلام والذي تمّ اختباره سابقًا وتطبيقه من كلا الطرفين أي بمثابة مدريد اثنين.
هذه المرّة، لن تتضمّن مكافأة سورية مقابل تحرّرها من القبضة الإيرانية أية صلاحيات على لبنان، التي اتّضح أنها أسوأ من المشكلة التي وجب على سورية معالجتها أساسًا، حتى في ظلّ أفضل الظروف لهيمنة بلد على آخر (Finlandisation).
إنّ حنين بعض الأجزاء الإسرائيلية لهذه التسوية الملائمة سيؤدّي للخضوع إلى مقاربة جديدة. لا تنوي إدارة بوش من خلال سعيها جاهدة لإخراج سورية من لبنان إلى تحويل سياستها نحو سياسة السيطرة على دمشق ولا حتى الاهتمام الدّولي الإيجابي في لبنان ينوي تكبّد العناء بشكل غير منطقي من خلال هكذا تبديل للوجهات.
وإنما يجب أن تتمثّل مكافأة سورية بإنهاء عزلتها السياسية، ممهّدة الطريق بذلك إلى انهمار كثيف من الاستثمارات الأجنبية، والتخفيف من حدّة آثار تحقيق برامرتز، وتوفّر الأموال السعودية، وأخيرًا، استعادة مرتفعات الجولان مقابل معاهدة مكتملة للسلام، والتطبيع، والضمانات الأمنية في ما يتعلّق بـ «إسرائيل». وفيما يختصّ بلبنان، ستتضمّن سلّة الاتفاقات التي من شأنها أن تؤدّي إلى السلام النهائي، تخلّي «إسرائيل» عن مزارع شبعا، تبادل للأسرى، ترسيم نهائي للخط الأزرق، تسليم خرائط عن الألغام المزروعة إلى اللبنانيين، ضمانات أمنية مدرّعة على الحدود الشمالية لـ «إسرائيل».
لقد استفاد لبنان من ثلاثة عوامل كونه صمد أمام الشدائد والدمار الهائل نتيجة حرب صيف 2006: حصوله على اهتمام دولي مهم وعلى دعم مستمر؛ عدم العودة إلى التنازع المدني؛ غياب قوات الجيش السورية عن الأراضي اللبنانية. في حين لاتزال السياسة اللبنانية الداخلية دقيقة وضعيفة، لم يتأخّر الوقت بعد لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية بهدف جعلها تشمل عددًا أكبر من شرائح المجتمع التي شعرت بأنها مهمّشة نتيجة الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو/ حزيران 2005.
يلعب لبنان دورًا أفضل من ذلك عندما يسعى لتحقيق توازن داخلي بين أحزابه ومجموعاته الطائفية، ولكن للأسف هناك أمر غائب عن الصورة السياسية الحالية.
بالإضافة إلى ذلك، إنّ سعي بعض المناطق حاليًا للاستمرار في افتعال النزاعات مع دمشق، على رغم انسحاب سورية الشكلي من لبنان في أبريل/ نيسان 2005، هو أمر سيئ ومنافٍ للأهداف المنشودة. في حال تمكّنت المحاولات الإقليمية والدّولية نحو بسط السلام الدائم من كسب قوّة دافعة خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، قد يكسب لبنان فرصة جيّدة لكسر تلك السلسلة المشؤومة من الحوادث، إذ يتم تدميره بشكل دوري، ذلك بفضل القنابل الموقوتة المتمثّلة بحزب الله مسلّح أو فلسطينيين مسلّحين راسخين في بنيته، من شأنهم، في وقت قادم، إشعال حلقات إضافية من الحرب. لم تعد تلك الدائرة غير المتناهية من الحوادث تخدم مصالح القوى العظمى، وخصوصاً الولايات المتحدة.
نادرًا ما يبرز المنتصر واضحًا بعد قتال غير متناسق كالذي جمع «إسرائيل» مقابل حزب الله. لا شكّ بأنّ مقاتلي حزب الله حاربوا بشكل جيّد على أرض المعركة، ولكنّ «انتصارهم» كان جزئياً بكل تأكيد، نظرًا للدمار الفظيع الذي شهدته مؤسسات الحزب والطائفة الشيعية عبر البلد. على أمل أن تكون أسطورة «توازن الرّعب» التي عمل حزب الله جاهدًا على ترسيخها في أذهان شبابه وأتباعه شديدي التأثر قد تلطّخت بالحقائق البشعة لما ظهر على أرض الواقع. لم يقتصر الأمر على الشيعة في لبنان، وإنما كلّ من في هذا البلد عانى بشكل فظيع ودفع الثمن غاليًا.
فضلاً عن ذلك، كوننا نعيش في حضارة تعلّق أهمية كبيرة على العار، إذ تسيطر مسائل الشرف والكرامة والنزاهة على الفكر المشترك وتشكّل وجهات النظر المسبقة الخاصة بالأفراد وبالمجموعات، هناك مغزًى من زرع شعور النصر بين أتباع الطرف الأضعف. غالبًا ما تجري المفاوضات التي ينتج عنها اتفاقات طويلة الأمد بشأن نزاعات مستعصية، بعد هكذا إحساس بالنصر، مهما كانت شرعيته. ليست المسألة مرتبطة بتخلّي حزب الله عن سلاحه، إلى الحكومة اللبنانية التي يشكّل الحزب جزءًا منها والذي يمكنه أن يظلّ كذلك، بقدر ما هي متعلّقة بعدم اتخاذ قرار أحاديّ الطرف باستخدامه، أو تبعًا لتعليمات أجندة خارجية.
تتراءى الناحية الإيجابية للنتائج غير الحاسمة المتعلّقة بالصّدامات العنيفة التي حصلت حديثًا في لبنان، بالفرص الجديدة للأبعاد التاريخية التي تلوح بكثافة في أفق الشرق الأوسط المضطرب. تؤدّي المسائل الخطيرة على غرار إيران نووي محدق، واحتمال خسارة روسيا لأسواق الطاقة الأوروبية بسبب الولايات المتحدة إذ تمثّل الولايات المتحدة اليوم الناقل الأساسي للمنتجات البترولية بعد الخليج إلى التوصّل لحلول سريعة وسلمية للنزاعات المعلّقة في منطقة البحر الأبيض المتوسط الشرقية.
يكمن التحدّي اليوم في الدبلوماسية الواضحة والمبتكرة لانتهاز الفرصة ودفع المنطقة نحو حقبة من السلام الدائم.
حبيب مالك
باحث في الحضارات في الجامعة اللبنانية الأميركية، والمقال ينشر بالتعاون مع خدمة «كومن غراوند
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1464 - الجمعة 08 سبتمبر 2006م الموافق 14 شعبان 1427هـ