يعاني الاستنباط الفقهي الحاضر على التقدم الذي أحرزه في بعض المجالات من عدة إشكالات منها إغفال البحث الجاد عن المعاني الأصلية للفظ المستخدم في النص اتكالاً على ما اصطلحوا عليه (أصالة عدم النقل في معاني الألفاظ) ويعني ذلك استصحاب المعنى المتبادر الآن من اللفظ قهقرائياً إلى زمن صدور النص، ولكني لا أعتقد بواقعية هذا الأصل إلا بمقدار أن العقلاء لا يعتنون باحتمال تغير المعنى عندما يكون ضعيفاً جداً وهذا غير حاصل في الكثير من الألفاظ المستعملة في النص حيث طول المسافة الزمنية واختفاء السياقات التاريخية وتبدل الدلالات تبعاً لتبدل الثقافة ما يعني ضياع الكثير من مرامي الألفاظ ومقاصدها، ويتصل هذا الإشكال إلى حد ما بإشكال آخر وهو استغراق الاستنباط الفقهي الحاضر في المفردات الفقهية وتشعباتها على حساب الغايات الأصلية لتلك الفروع كالذي يهيم في تفرعات الطريق فيمعن في بعده عن الجادة الأصلية، وأصبح المتدين يجد نفسه أمام ركام هائل من الفتاوى ولكنه لا يدري بوضوح ما هي الغاية العقلانية من كل هذه الخطوط الحمراء والخضراء الكثيرة جداً والتي تحيط به من كل جانب، والشيء الوحيد الذي يقال له هو إن في التقيد بها ثواباً وفي التساهل فيها عقاب، والأساس في هذه المعضلة هو توقف البحث المقاصدي الفقهي في مراحله الأولية وكأنه ذنب ارتكبه بعض الفقهاء المتقدمين وتبرأ منه المتأخرون! مع أن الدين الحق - كما يقول ابن رشد - يجب أن يكون موافقاً للفطرة والعقل لأنه بني على هذين الأساسين فالدين هو الفطرة «فطرة الله التي فطر الناس عليها» (الروم: 30)، وهو كذلك العقل «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها» (محمد: 24)، فما خالف ذلك فقد يرجع إلى العادات التي كانت سائدة عند العرب يومذاك والتي قد يراعيها الدين ظاهراً لضرورة السيرورة التاريخية للتقنين ولكننا لا يجب أن نقف عندها بل يجب أن نتخطاها إلى غيرها لأن ذلك هو مقتضى الحركية الطبيعية للتاريخ، مع أنه لا ينبغي أن نغفل ما ألصق ظلماً بالدين من الزيف الكثير لغايات سياسية أو مذهبية أو طبقية أو عرقية أو حتى شخصية محضة، وقد قال ابن رشد أيضا إننا نعتقد بصحة الأديان لا بسبب المعجزات فإنها أدلة يسوقها الأنبياء مراعاة للضعفاء في أفهامهم ولكن الدلالة الكبرى لحقانية الأديان هي مضامينها ومقاصدها فعندما نتحدث عن مقاصد الشريعة لابد أن ننظر في مضامينها وما تحمله من دلالات عقلانية لنتقدم بذلك تجاه عقل المعرفة والتدبر = العقل الحقيقي في مقابل عقل الدهشة والانبهار = العقل الزائف السائد.
وهنا يستوقفنا سؤالان مهمان جداً يطرحان عادة من خارج الأديان ولكنهما وللأسف الشديد لا يتلقيان بجدية كافية في المحافل الفكرية الإيمانية وهما: إذا كان المقصود بالدين هو صلاح الإنسان فما هو مدى تحقق هذا الهدف على مر التاريخ؟ وما الذي حققته الأديان منذ نشوءها إلى اليوم من تهذيب للإنسان أو رقي بمستواه المعيشي؟ وما هي إنجازات الأديان في تعليم الإنسان الطريقة العملانية المثلى للحياة وما هي انعكاسات ذلك على الأرض؟ وعندما أقول العملانية فإني أحترز عما يسميه هيغل (الذهنية المثالية الحالمة) والتي تسوق كلاماً جميلاً لكنه لا يمكن أن يأخذ طريقه إلى واقع الإنسان فمحله بطون الكتب ومجالس الوعظ ولا يتخطى ذلك إلا إلى الأفراد الاستثنائيين جداً، مع أن القانون يجب أن يراعى فيه المستوى المتوسط من الناس وليس الأوحدي الاستثنائي، وأعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تحوج الباحثين إلى الغوص بعيداً في أعماق التاريخ لاكتشاف وتحليل الإنجازات العظيمة للأديان وتأثيراتها في مجمل الحضارة الإنسانية وليس الاكتفاء باجترار المكررات وتكرار المسموعات.
والسؤال الثاني: عندما نتحدث عن إيجابيات الدين فكيف نغفل وقائع تاريخ الأديان والمذاهب وما شهده من صراعات مريرة أدت إلى سفك الدماء الكثيرة وتقطع الأواصر الإنسانية وتشويه العلاقات المجتمعية؟ ويبدو الإشكال في غاية الجدية عندما نلتفت إلى الشحنات العاطفية الهائلة المختزنة في الدين والتي تتجلى بإيجابية صاعدة لصالح الدين الحق = الأنا، وبسلبية حدية ومتعاظمة جداً في وجه الدين الباطل = الآخر، وهذا ما يجعل الفكر التعددي في التركيبة الدينية شيئاً أشبه بالمستحيل التعقل، ومن هذه الأرضية انطلق الذين دعوا إلى الفصل بين الدين والحياة، فالدين عندهم هو سبب الإشكال فلا يصلح أن نبحث فيه عن الحل.
ولكن الجدل في نظري لا ينتهي عند هذا الحد وذلك لأنه بالإمكان أن يقول أحد: المشكلة ليست راجعة إلى جعل الدين نظاماً للحياة بقدر ما هي راجعة إلى استغلال الدين بمعنى تحويله إلى أداة للوصول إلى أهداف دنيوية دانية، وهنا تتضح حجة الداعين إلى الدمج بين الدين والحياة إذ يقولون إن الدين كأية منظومة فكرية يشكل أداة ذات وجهين أحدهما يخدم الخير والآخر يخدم الشر وقد تحدث القرآن الكريم عن نفسه بما يشبه هذا المعنى «وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون» (التوبة: 124، 125)، وفي سورة أخرى «فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» (آل عمران: 7).
فلا توجد منظومة قانونية أو معرفية إلا ويمكن أن تستغل للشر كما الخير ولأجل ذلك فإن أمام خبراء الأديان مسئولية ضخمة وهي العمل بجد على تثوير الجوانب الإنسانية والعقلانية للدين في مواجهة تضخم الوجه الوظيفي البارد والجامد فيه، وقد باتت السمة البارزة للدين مجموعة من الأوامر الجزمية والقسرية والتي تنظر إلى الإنسان على أنه مجرد أداة مسخرة لإنجاز التكاليف والوظائف بل هو أداة سخرية حقاً لأنه من الممكن - بحسب بعض المفسرين الحاليين للأديان - أن يوظف الإنسان لبعض التكاليف التي لا هدفية لها إلا اختبار مدى خضوعه وبالتالي استحقاقه للجنة أو النار! وليت شعري كيف يمكن أن نتوقع من الإنسان أن ينظم حياته بطريقة فاعلة ونشطة على أسس لا يفهم مغزاها ولا يدرك لماذا هي مطلوبة منه! وماذا سيكون شعوره غير الامتهان المطلق؟ وهنا تحديداً تبرز أهمية فقه المقاصد ليس بالنسبة إلى الفقيه المتخصص فحسب بل بالنسبة إلى كل المتدينين الذين يرغبون في أن يكون الدين برنامج حياتهم.
وقد ساهم تصاعد ثقافة الاستغراق في التعبد إلى حد التبعية العمياء جداً في تنامي الوجه العبوس للدين والذي يجعل وضع الأغلال على الإنسان أصلاً أولياً ويتربص بحركية الإنسان وإبداعاته في الحياة ويضع عليه القيود والأغلال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ولا يعطيه الحرية إلا بمقدار ما يضطر إلى ذلك وعلى مضض شديد وذلك في مواجهة الدين الفطري الذي يجعل فك الأغلال هو الأصل الأولي ويعترف بإبداع الإنسان وانطلاقته في سائر مجالات إنسانيته ولا يضع عليه القيود إلا بمقدار الضرورة التي لا مناص عنها كما قال تعالى «ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم» (الأعراف: 157)
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1463 - الخميس 07 سبتمبر 2006م الموافق 13 شعبان 1427هـ