الحرب الإسرائيلية على لبنان انطلقت من خلال الخطة الأميركية التي أرادت جعل لبنان مرتكزاً لمشروعها في الشرق الأوسط.
فهذه الحرب استطاعت أن تعيد للعالم العربي والإسلامي توازنه وشعوره بالقوة والعنفوان، بعدما أصيب الجيش الإسرائيلي بنوع من أنواع الهزيمة وسقطت مقولة الجيش الذي لا يُقهر، وهو ما قد يجبر أميركا على اعادة النظر في اعتبارها «إسرائيل» اليد الضاربة في المنطقة والقوة التي تعتمد عليها في الضغط على شعوب المنطقة.
لقد ارادت أميركا إسقاط قوة المقاومة والممانعة في لبنان تمهيداً لإسقاط قوة المقاومة والممانعة في العالمين العربي والإسلامي التي أربكت السياسة الأميركية بعد الذي واجهته في العراق وأفغانستان وحتى في إيران، فسارعت لإطلاق حرب واسعة كانت قد خططت لها مع «إسرائيل» متذرعة بالجنديين اللذين أسرتهما المقاومة الإسلامية، لأن أميركا الإدارة كانت تعتقد أن بإمكان «إسرائيل» أن تحقق في هذه الحرب ما حققته في حروبها السابقة ضد العرب لتحاول إسقاط المقاومة ونزع سلاح حزب الله.
لكن المقاومة في لبنان فاجأت أميركا و«إسرائيل» على مستوى الصمود الميداني وعلى مستوى الخطط العسكرية واستمرار القوة الصاروخية وتصاعدها وصولاً إلى النصر في الحرب المباشرة بين المجاهدين وقوات النخبة في الجيش الإسرائيلي بحيث أسقطت معنويات هذا الجيش الأمر الذي أدى إلى نوعٍ من أنواع الهزيمة له.
لقد كرست هذه الحرب روح الكرامة والعنفوان التي تجلت في الشعوب العربية والإسلامية وشعورها بالعنفوان والقوة بعدما رأت بطولات المقاومة في لبنان وتفاعلت معها ورأت فيها قوة جديدة وتاريخاً جديداً.
تأكد من هذه الحرب ان الإدارة الأميركية اصيبت بنوع من أنواع الإحباط ولذلك دفعت «إسرائيل» للاستمرار في حصارها الجوي والبحري على لبنان، وها هو الرئيس الأميركي بوش يكذب أولاً وثانياً وثالثاً عندما يزعم أن «إسرائيل» انتصرت وأن حزب الله هُزم لأنه يحاول التأثير على شعبه في الحروب التي يقودها ويدعمها، وخصوصاً أن «إسرائيل» التي خسرت الحرب لم تستطع أن تحقق لأميركا أي هدف، ولذلك حاولت الإدارة الأميركية أن تعطي «إسرائيل» بعض النصر السياسي من خلال أن تلعب لعبتها بالقرار 1701 ومن خلال الحصار البحري والجوي الذي انطلق بغطاء أميركي.
لقد زادت هذه الحرب من صمود الشعب اللبناني صموداً على صمود في أثناء الحرب وهو لايزال يدعم المقاومة ويجد في أميركا الشيطان الأكبر، وإن «إسرائيل» هي اليد لهذه الإدارة (الأميركية) والتي تضرب الشعوب وتقتلها وتسقط أدنى مقومات القانون الدولي.
ولن نبالغ اذا قلنا أن الظروف التي كان يعول عليها الآخرون لتأجيج فتنة سنية شيعية في لبنان قد فشلت، لا بل صار بدلا عنها مزيدا من التنسيق السني والشيعي في خط الوحدة الإسلامية.
نلاحظ أن هذه الحرب التي انتصرت فيها المقاومة حطمت كل محاولات التكفيريين والمتعصبين لإيجاد شرخ بين السنة والشيعة في العالم الإسلامي. وقد وقف علماء السنة في مصر ولبنان وسورية والسعودية مع المقاومة في لبنان ورفدوها بالموقف الإسلامي والشرعي الداعم لها، ولذلك اعتقد أن هذه الحرب استطاعت أن تحقق في جملة ما حققته وحدة شعورية جامعة بين السنة الشيعة وأسقطت كل الذين يريدون إثارة الفتنة في الواقع الإسلامي، واستطاعت (الحرب) أن توحّد العالم الإسلامي وأن تعيد الروح الإسلامية إلى وهجها في كل المواقع الإسلامية من ماليزيا إلى تركيا إلى أندونيسيا وغيرها لتعيد لنا التاريخ الإسلامي المنتصر في بدر والأحزاب وخيبر بروح جديدة وبشكل جديد.
أثبتت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان أنّ ما يصيب طائفة من الطوائف اللبنانية ينعكس على الطوائف الأخرى، وأنّ أي رهان على إضعاف فئة بعينها في لبنان سينعكس ضعفاً يصيب الساحة الوطنية برمّتها، مع الأخذ بالاعتبار خطورة الذهنية التي يحملها البعض في التقليل من خطر «إسرائيل»، فيما ترسم هذه الذهنيات نفسها علامات الاستفهام والتعجّب حيال المقاومة.
لقد لاحظنا منذ بداية هذه الحرب أن العدو الذي تحدّث عن بنكٍ من الأهداف وعن استهداف مباشر للبنى التحتية، وارتكب أفظع المجازر لدفع الناس للنـزوح ولممارسة نوع من الضغط على الداخل اللبناني وراهن على تجييش الناس ضد المقاومة، فوجىء بتماسك الشعب اللبناني وبعملية الاحتضان للنازحين والتي انطلق فيها الشعب بمختلف طوائفه بعفوية وطهارة وإنسانية وبروح وطنية عالية.
الا ان ما يبعث على الأسى دائماً في لبنان أن الطبقة السياسية في شكل عام والكثير ممن يتحرّكون في الوسط الديني لا يرتقون إلى مستوى الطهارة الشعبية، إذ لا يرتقي من هم في القمة من رجال الدين ومن السياسيين إلى مستوى القاعدة الشعبية في اندفاعها الاجتماعي والوجداني وحتى في رؤيتها السياسية ومعاينتها للخطر الإسرائيلي.
ففي هذه الأيام نستمع الى أحاديث تعمل على أن توحّل ذهنيّة الناس من خلال الهمس بالأذن الطائفية وتحويل الأنظار عن جرائم العدوّ ومجازره وحصاره وعنجهيّته وتهديداته بالحديث عن فئة ما تفرّدت بحمل السلاح متناسية أن هذا السلاح هو الذي حرّر معظم الأرض اللبنانية بعدما شكّك الكثيرون بجدواه وأنه لم يكن السلاح الذي أطلق الحرب اللبنانية في السبعينات، ولم يدخل في حروب الطوائف والمنازعات المذهبية وأنه انطلق كردّ فعل على الاحتلال وأنه عندما تفرّد بطرد الاحتلال كان في غاية الانضباط وقدّم التحرير ثم النصر كهدية لكل اللبنانيين ولمن يستحقها من الأحرار دونما تبجّح أو غرور وبعيداً عن كل استعراض، وكانت كل هذه الدماء من التضحيات عربون حبّ للوطن كله ورسالة تحد لعدوّ لبنان الأوحد.
يجب ان لا ننسى ان المقاومة انطلقت في كل هذه الحرب من موقع ردّ الفعل بعدما فوجئت بخطة حرب أميركية إسرائيلية خفيّة، ولذلك كانت في حال دفاع عن النفس ولم تتفرّد بالقرار، ولكنها أخذت على عاتقها الدفاع عن نفسها وعن شعبها عندما تنصّلت الحكومة من هذه المسئولية.
كما يجب ألاّ نتناسى أن لبنان يمثّل النقيض لـ «إسرائيل» في تجربته التي تمثّل رسالة تعايش حضارية بين مختلف الطوائف، ولذلك فإن «إسرائيل» عملت ولاتزال تعمل لتدمير هذا النقيض دونما مبرّرات أو بمبررات واهية، وعلى الجميع ألا يهوّنوا من خطر «إسرائيل» الدائم على هذا النموذج الذي يشكّل تحدياً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وحتى أمنياً لها.
كنّا ننتظر من «السياسيين» أن يرفعوا الصوت في وجه السفير الأميركي الذي دافع عن الحصار الإسرائيلي وتبنّاه في بعض الجلسات الداخلية، أو أن يدعوا لطرد لصوص الأوطان من الأميركيين والإسرائيليين كما طرد السيدالمسيح لصوص الهيكل وأن يعلنوا الاعتزاز بهذا السلاح ومن يحرّكه، كما أعلن ذلك علماء وأساقفة في لبنان وكما افتخر به طلاّب الحرية والعزّة في المنطقة والعالم، وكما رأت به شعوب المنطقة أملاً واعداً بكسر شوكة الاحتلال الإسرائيلي.
وكنّا ننتظر أيضا أن يرتفع الصوت المسئول ليبارك بإبداعات المقاومة كونها إبداعات لبنانية بامتياز، لا أن يعمل هؤلاء على رجمها بالحجارة، متناسين كل التقارير والمعلومات الغربية والأميركية بالذات التي أكدت أن الإدارة الأميركية خطّطت لهذه الحرب مع «إسرائيل» مسبقاً.
إننا في الوقت الذي نشكر أبناءنا من كل الطوائف على احتضانهم للمقاومة وشعبها وإصرارهم على حماية وحدتهم الداخلية، نريد لمن يتحرّك في مواقع المسئولية الدينية أو السياسية ألا يتفرّد في الحكم على الحوادث وعلى الحرب الأخيرة على لبنان، إذ هناك من يختلف معهم كثيراً من داخل طوائفهم وخارجها
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1463 - الخميس 07 سبتمبر 2006م الموافق 13 شعبان 1427هـ