لاتزال الخطوات الأخيرة الليبية تجاه واشنطن تثير جدلا واسعا بين المحللين السياسيين، وخصوصاً بعد موافقة طرابلس على فتح ملفات برامجها النووية أمام هيئات التفتيش الدولي التي كانت وراء تأسيسها الولايات المتحدة، وتخليها عن برامج أسلحة الدمار الشامل التي كانت تتباهى بامتلاكها، هذا إلى ذهابها إلى حد عدم ممانعتها في وجود قواعد لقوات بريطانية أميركية على أراضيها واستعدادها للتطبيع مع «إسرائيل». ونظرا إلى ما تمتلكه ليبيا من احتياطيات نفطية ضخمة وغاز طبيعي إلى جانب الكميات الضخمة التي تنتجها. ويبدو أن طرابلس قد بدأت تهيئ لنفسها لما يمكن ان نطلق عليه مرحلة ما بعد المصالحة مع واشنطن، فقد أعلن رئيس مؤسسة النفط الليبية ورئيس الوزراء الليبي السابق شكري غانم حديثاً أن بلاده ستقوم بطرح مجموعة من القطع الاستكشافية للنفط في جولة ثالثة. وجاء تصريح غانم عقب الإعلان عن تدشين حقل جديد لانتاج الغاز الطبيعي والمكثفات بمنطقة حوض سرت شرق العاصمة طرابلس نفذته شركة هيونداي الكورية وأطلق عليه «حقل التحدي». وتسعى مؤسسة النفط الليبية إلى رفع إنتاج البلاد النفطي إلى معدله الذي كان في السبعينات والذى يقدر بأكثر من ثلاثة ملايين برميل في اليوم. ومن المعروف أن ليبيا قد ضاعفت من برامجها وخططها لتأمين رفع طاقاتها الإنتاجية من النفط عن طريق التوسع في منح امتيازات التنقيب عن النفط وزيادة احتياطاتها ومعدلات إنتاجها من النفط والغاز الطبيعي. وكشف غانم عن أن مناقشات تجرى الآن مع الكثير من الشركات العالمية بما فيها تلك الأميركية، بهدف تطوير معامل التكرير بالمشاركة. وقال إن الهدف من ذلك هو تطوير المصانع البتروكيماوية والاستمرار بقوة في عمليات زيادة الاستكشافات الغازية والنفطية. وأشار غانم إلى أن بلاده مستمرة في عملية فتح الأبواب أمام الشركات العالمية النفطية للاستثمار والمشاركة في عمليات الاستكشاف والتنقيب موضحا أن بلاده قامت بوضع سياسة جديدة للنفط أدت إلى عودة الكثير من الشركات العالمية النفطية الكبيرة خصوصاً بعد أن أزيلت الكثير من المشكلات العالقة بين ليبيا وبين بعض الدول.
وأكد أن ليبيا ستكون مصدرا مهما يغذي احتياجات أوروبا من المنتجات النفطية، إضافة إلى ما تقوم به الآن من تصدير للغاز المسال إلى أوروبا عن طريق الأنابيب تحت البحر. النفط الليبي تشير الابحاث الجيولوجية المعدة عن ليبيا إلى أن 70 في المئة من المساحات الواعدة في اليابسة والمغمورة غير مستكشفة حتى الآن.
ويقدر احتياطيها المثبت بـ 36 مليار برميل وقد يصل إلى مئة مليار برميل وفقا لتوقعات بعض خبراء الجيولوجيا واستنادا إلى مخططات الأحواض الرسوبية، ما يعني أنها تمتلك مخزونا يوازي 10 في المئة من احتياطي العالم النفطي. وتضم ليبيا اكبر احتياطي نفطي في افريقيا. وتشيع طرابلس أنها على استعداد لاستثمار ثلاثين مليار دولار في غضون عشر سنوات لزيادة انتاجها النفطي.
وتعتبر ليبيا الخارجة من سنوات من العزلة الدولية منطقة جذب نادرة من نوعها لشركات النفط العالمية المتنافسة الساعية لاستكشاف احتياطيات كبيرة.
وتنتج ليبيا حالياً نحو 1,6 مليون برميل يومياً من النفط الخام، وتعمل للتوصل الى طاقة انتاجية بمعدل مليوني برميل يومياً في نهاية العقد، و3 ملايين برميل يومياً في 2015، بحسب إدارة معلومات الطاقة في وزارة الطاقة الأميركية. وتقدر الإدارة كلفة الاستثمارات لرفع الطاقة الإنتاجية إلى هذه المستويات بنحو 30 مليار دولار. وترغب ليبيا في اجتذاب استثمارات أجنبية لمساعدتها في زيادة انتاجها النفطي.
كما تقدر احتياطيات ليبيا المؤكدة المتبقية من الغاز بكمية 37 تريليون قدم مكعبة، قد ترتفع إلى ما يتراوح بين 70 و100 تريليون قدم مكعبة. يذكر ان النفط يشكل قرابة 90 في المئة من موارد ليبيا العضو في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، إذ تبلغ حصتها الإنتاجية 1,3 مليون برميل في اليوم. وقد مكنت هذه الثروة النفطية هذا البلد من تحقيق نمو سنوي مركب في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10 في المئة في مجال استخراج النفط والغاز و10 في المئة تقريبا في الأنشطة غير النفطية. ومن المتوقع أن تمثل عودة الإنتاج الليبي، والمقدرة بنحو مليوني برميل في اليوم خلال السنوات القليلة المقبلة، مصدراً لقلق منظمة الأوبك، والتي تنظم سقف الإنتاج الليبي الراهن من النفط بـ 3,1 ملايين برميل في اليوم. وكانت معدلات إنتاج النفط الليبي قد تراجعت عن ذروة الإنتاج في السبعينات والتي بلغت 3,3 ملايين برميل في اليوم، وفق وكالة الأسوشيتد برس. ويرى المحللون أن عودة ليبيا لضخ المزيد من النفط إلى السوق العالمية سيعزز من المخزون العالمي وسيساعد على تراجع أسعار المنتجات النفطية.
ويتوقع العثور على اكتشافات ضخمة خلال السنوات العشر المقبلة وتسعى ليبيا لاجتذاب عشرة مليارات دولار في صورة استثمارات مباشرة في قطاع النفط والغاز. وقد طرحت اكثر من 130 منطقة منذ مطلع 1999 على شركات الطاقة، غير أن العقوبات التي كانت تفرضها الولايات المتحدة منذ العام 1982، وشددت العام 1986، والتي كانت تحظر استيراد النفط الخام الليبي والصفقات التجارية والتجارة المباشرة مع ليبيا؛ الأمر الذي كان يعوق الشركات الأميركية من الاستثمار في ليبيا. ومن المعروف أن الشركات الأميركية هي التي تمتلك الخبرات والتكنولوجيا الأحدث في مجال التنقيب عن النفط. فالصناعة النفطية الليبية مازالت تحتاج إلى التحديث على رغم وجود شركات فرنسية إيطالية وإسبانية ونمسوية في البلاد ضمن شركات أوروبية ضخت مليارات الدولارات خلال الفترة الماضية في ليبيا.
وتعد إني (ENI) الإيطالية، وتوتال (Total) الفرنسية من أكبر الشركات المنافسة في ليبيا. ويعزو المحللون أن التقديرات تعكس تراجع منح حقوق التنقيب التي ستزداد مع رفع الولايات المتحدة للحظر الاقتصادي وإتاحة المجال أمام استخدام أحدث تقنيات التنقيب، وزيادة معدلات إنتاج حقول النفط الليبية الهرمة. كما سيتيح رفع الحظر الاقتصادي الأميركي المجال أمام ليبيا، أيضاً، لتطوير صناعة الغاز الطبيعي واستئناف الجهود لتصدير الغاز المسال الذي أهملت صناعته خلال فترة طويلة.
الأهمية العالمية للنفط على رغم كل ما يقال حول بدائل الطاقة، لكن يستفرد النفط بعرشه عليها جميعا، في المستقبل المنظور كحد أدنى، لذلك يواصل النفط في احتلال مركزه كأهم سلعة في العالم. وبكل بساطة، من دون النفط سيكون مجتمع اليوم الصناعي مستحيلا. فالنفط والغاز الطبيعي هما وقود محرك الرأسمالية الحديثة. يكفي ان نعرف أن استهلاك دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يبلغ ثلثي إجمالي النفط المُستهلك في العالم. ولا يعتبر النفط والغاز مصدر 62 في المئة من الطاقة المستخدمة في العالم فقط، بل أنهما يدخلان في صناعة الكثير من السلع والمنتجات التي نأخذها كأمر مسلم به. لكن، وعلى الدرجة نفسها من الأهمية، فكل دبابة، كل طائرة، كل صاروخ كروز، ومعظم السفن الحربية، في الولايات المتحدة أو أي ترسانة حربية لأي دولة أخرى، تعتمد على النفط لشن إرهابها. وفي الواقع، فوزارة الدفاع الأميركية هي المُستهلك لما يزيد عن الـ 80 في المئة من كل الطاقة التي تستخدمها الحكومة الأميركية. عموماً، يشكل النفط والغاز ما يتراوح بين 65 في المئة إلى 70 في المئة من كل الطاقة التي تستهلكها أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم: الولايات المتحدة، اليابان، والاتحاد الأوروبي. كذلك فقد شهدت الكثير من الدول الصناعية في العالم الثالث مثل كوريا الجنوبية، الصين، البرازيل، والمكسيك، ارتفاعاً صاروخياً في استهلاكها للنفط والغاز.
واعتماداً على بيانات مركز الدراسات السياسية والدولية في واشنطن، كانت الولايات المتحدة تستورد في العام 1973 نحو 36 في المئة فقط من احتياجاتها من الطاقة، وفي العام 2000 استوردت نحو 57 في المئة من حاجاتها من الطاقة، ارتفعت هذه النسبة تدريجيا حتى بلغت نحو 60 في المئة العام 2003. ففي الوقت الحالي يستهلك الأميركيون 5,19 ملايين برميل من النفط يوميا، من بينها 5,11 ملايين برميل يتم استيرادها، ومن المنتظر أن يستمر هذا الاتجاه في المستقبل حسبما توضح الدراسات. ويذهب الخبراء النفطيون في الولايات المتحدة إلى أن حجم الاستهلاك العالمي في حال النمو الاقتصادي سيكون في الفترة من العام 2000 وحتى العام 2025 أعلى من كل مثيلاتها في التاريخ، وهو ما يدفع النفط إلى أن يكون السلعة الأهم في. العالم وفي هذا السياق توقع لورد براون كبير المديرين التنفيذيين في شركة بريتيش بتروليوم (بي. بي.) ان يستمر النفط والغاز كمصدر أول للطاقة في السنوات الـ35 المقبلة على الأقل. ذلك كان واقع الطرف الأول في معادلة العلاقات الليبية الأميركية والذي هو طرابلس، لكن فهم العلاقة في إطارها الصحيح يتطلب إلقاء الضوء على الطرف الثاني في المعادلة والذي هو واشنطن. كيف ترى الدوائر الأميركية مستقبل تلك العلاقة وما هو الحيز الذي تحتله في إطار الاستراتيجية الأميركية... هذا ما ستتناوله الحلقة الثانية من المقال
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1463 - الخميس 07 سبتمبر 2006م الموافق 13 شعبان 1427هـ