بعد أن وضعت الحرب المفتوحة على لبنان أوزارها (يوليو/ تموز وأغسطس/ آب) العام 2006، وبعد صدور قرار مجلس الأمن 1701 الذي تعذرت ولادته بعد أن حدث ما حدث، بدأنا نشم من جديد رائحة مقولة الحلول السلمية وما أطلق عليه - مدريد 2 - بعد أن مرت خمسة عشر عاماً على مدريد 1 ذلك المؤتمر الذي أطلق عليه مؤتمر السلام العام 1991، الذي قدمه جورج بوش الأب مكافأة للحكام العرب بعد ما قدموه من عمل عظيم في عاصفة الصحراء «التي كانت بداية للمسلسل الأميركي في منطقة الشرق الأوسط الكبير»، تلك الحرب التي تحقق فيها النصر لأميركا وحلفائها في أوروبا وللمحافظين العرب في الشرق الأوسط على إثر ذلك النصر انعقد مؤتمر مدريد لولادة مبادرات السلام وعلى رغم المخاض العصيب الطول فإنها ولدت ميتة على رغم محاولات عمليات الإنعاش المتكررة، التي إن عملت شيئاً فهو لا يتعدى إبقاء الموت اكلينيكياً.
حتى جاءت الحرب على لبنان ولضخامة اعداد النعوش التي حملت! كان بالإمكان إعلان مبادرات السلام في واحد من هذه النعوش! فيضيع صدى إعلان الفضيحة مع جملة فضائح ما ارتكبه وما خلفه العدوان الصهيوني على لبنان المقاوم! ما كانت الانتفاضات في فلسطين المحتلة على رغم ضخامة التضحيات لتعلن بمفردها موت مبادرات وعمليات السلام!
إن تاريخ المحن مع العدو الصهيوني يبرهن مرة أخرى على مدى حماقته المرتبطة بطموحه إلى الهيمنة على المنطقة ما يتعارض ومبدأ السلام. إن حكومات العدو الصهيوني المتعاقبة لم تكن جادة حيال عملية السلام بما فيها حكومة باراك! على رغم توافر ظروف أكثر ملاءمة عبر الوسيط الأميركي المتمثل في حكومة كلينتون وبعد حركة «حماس» عن الحكومة! مرة بعد أخرى يبرهن العدو الصهيوني على طبيعة هذا الكيان الذي قام على الاغتصاب ولكي يضمن استمراره عليه أن يوغل في البطش والترهيب ولجم الأفواه المنادية بالممانعة! فكيف هي الحال و«المقاومة المسلحة» كحزب الله التي ابقت أمن الدولة الصهيونية عرضة للصواريخ القريبة والبعيدة المدى؟
السؤال المطروح الآن، هل تبقى الدولة الصهيونية على استراتيجيتها القائمة على الردع والبطش والترهيب التي اثبتت فشلها بوضوح في حربها التي ناهزت شهراً على لبنان ومقاومته الفريدة من نوعها في البطولة وفي الفداء؟ وخصوصاً أن الظروف مواتية في توافر الحليف الأميركي الذي يشترك معها في حربه على الإرهاب في العراق وأفغانستان، كما أن حركة «حماس» على رأس الحكومة الفلسطينية الآن! والخوف من صواريخ حزب الله مازال يقض مضجعهم ويشكل تهديداً حقيقياً لامن الكيان الصهيوني القائم على المستوطنين والمستوطنات المصطنعة وإن هذا التهديد لشمال وجنوب هذا الكيان يذّكر الأجيال الشابة داخل هذا الكيان بطبيعة هذه الدول المسخ وإنه لا أمان لمستقبلهم إلا بالهجرة منه أو تجنيدهم في حروب كالحرب الأخيرة على لبنان! إذا لم يتجه هذا الكيان لتغيير استراتيجية وتبني خيار التراجع نحو السلام.
إن المؤشرات أو العناصر الدولية والإقليمية التي تدفع بـ «إسرائيل» لاتجاه أو الحرب والبطش والترهيب لهي مرجحة من واقع المنظور الحالي والمستقبل القريب إذ إن تخويف جورج بوش للشعبين الأميركي والأوروبي من الإسلام «الفاشي» يدخل ضمن هذه العناصر التي تدعم الصهيونية العالمية في استراتيجية الردع والحروب الاستباقية، كما لا اعتقد أن تغير الحكومات سواء في الكيان الصهيوني أو في الولايات المتحدة الأميركية سيضيف أي تغير حقيقي مؤثر لهذا الاتجاه. في مقابل هذه المعادلة يجب أن تكون قوة ردع حقيقية في الطرف المقابل بشرط ألا يشك الأميركيون في حقيقة تأثيرها أو فعاليتها واننا خبرنا على مدى العقود الماضية في حروبنا ونزاعنا مع العدو الصهيوني فراغ المعادلة من هذه القوة المحسوبة! ما هو السبب والمسببات فإننا لا نريد أن ندخل في سجلات عقيمة ومترهلة، المهم النتيجة كما بدت وتبدو بوضوح الآن وهي انعدام أو عدم توافر القرار السياسي لوجود هذه القوة الرادعة لدى العرب والمتمثلة في المقاومة كما روتها ونعرف جميعاً بعد اتفاقات السلام التي عقدتها كل من مصر والأردن وهما من دول المواجهة الرئيسية فإنه لا مكان في أجندة الدولتين لتشكيل قوة ردع من خلال الجيوش بل الادهى من ذلك فإن الدولتين كنتيجة لهذه الاتفاقات أطبقت بحصاد ضد المقاومة في كل من غزة والضفة الغربية وخصوصاً بعد وصول حركة «حماس» إلى السلطة الفلسطينية (الهشة والمصطنعة من الاحتلال نتيجة لأوسلو)، من هنا تتعالى أصوات مسئولي حماس في الغائها.
ما بقي من قوة ردع لدى العرب إذاً بعد استبعاد الجيوش والمقاومة المسلحة هي المقامة بالقوة بل الاقتصاد والمتمثلة في سلاحي النفط والمقاطعة وإذا اخذنا في الاعتبار غياب الإدارة السياسية في استعمال هذا النوع من المقاومة (السلمية) متعذرين بعدة أسباب ظاهرة وغير حقيقة فإننا ندرك جميعاً أن المعنيين بهذا القرار غير قادرين بعد أن سلت أيديهم بالاتفاقات وعلى رأسها اتفاق منظمة التجارة الدولية والاتفاقات الثنائية وبعد أن عمرت ديارهم بجيوش المارينز والمشاة الأميركية.
رب سائل يقول ما العمل إذاً؟ وهل لم يبق أمامنا إلا الاستسلام للسلام الذي يفرضه العدو الصهيوالأميركي ونعيش بذلنا وعارنا إلى أجل غير مسمى وخصوصاً أننا خبرنا تداعيات اتفاقات السلام في كل من مصر والأردن، أتقبل بضياع حقنا في القدس والتقاعس عن واجباتنا تجاه بيت المقدس؟ أسئلة كثيرة لا تغيب عن بال المثقف العربي والمسلم الحر...! وقد تغيب عن بال المتاجرين بالسياسة وان لم تغب عن صالوناتهم الرسمية والاحتفالية!
إن الإجابة عن هذه الأسئلة المحورية المهمة في ظل معطيات الوضع العربي والإقليمي وكذلك الدولي (الهزيل وغير الفاعل). تتلخص فيما يجري على الساحة اللبنانية وهو الضغط المباشر وغير المباشر وبجميع الطرق المتاحة في سبيل أن تراجع الجهات الرسمية المعنية أجندتها فيما يتعلق بهذه المعطيات البائسة على الساحتين الإقليمية والدولية والاعتراف أو الموافقة الحقيقية المعلنة على استعمال قوة الردع والمتمثلة في المقاومة في الجانب العربي لتحقيق أهدافها المشروعة في تحرير الأرض وتحرير القرار السياسي العربي من جميع القوى الضاغطة المستعربة والمتصهينة التي تخشى من تداعيات هذه المقاومة على انظمتها ومنظومة دفاعها الهشة والمهترئة.
إن تحالف حزب الله مع نظام الثورة الإسلامية في إيران يأتي في سياق هذا البرنامج المشروع كواحد من وسائل الضغط المهمة الفاعلة وان أية قوة ردع مضافة لهذا الحليف (الإيراني) ولو كانت القوة النووية فإنها تدعيم برنامج حزب الله المشروع وخصوصاً أن ما يملكه العدو الصهيوني من قنابل نووية لا يخفى على المجتمع الدولي. إن قوة الردع النووية لدى طرفي النزاع أمر يجب قبوله من المجتمع الدولي إذا كان هذا الأخير ممثلاً بمؤسساته الرسمية (الجمعية العامة أو مجلس الأمن) يقر بوجوب حل عادل وشامل للنزاع العربي الإسرائيلي وليس حلاً على حساب العرب والمسلمين.
وعودة إلى حيث بدأنا وهي دعوات السلام (طويل الأمد) كما أطلق عليها البعض في التصريحات الرسمية المعلنة سواء من حكومة العدو الصهيوني أو ممن قدم إلى لبنان ممثلاً لهذا العدو باسم الحياد الدولي، فإن هذه الدعوات وإن حملت عناوين مختلفة (كالسلام الدائم بين لبنان و«إسرائيل») فإنها لا تعدو في هدفها الأساسي سوى تجريد العرب من قوة الردع المتمثلة في المقاومة اينما كانت تبدأ بحزب الله في لبنان وتنتهي بـ «حماس» و«الجهاد» في فلسطين، وإننا نلحظ في عبارة «السلام الدائم» المبهمة والمبطنة بأنواع الألغام وإنها بالتأكيد لا تعني السلام العادل وان شملت مشروعات حلول في الجولان وفلسطين والخلاصة إن هذه الدعوات الصادرة من الصهيونية الأميركية ما هي إلا تلويح بمجزرة أميركية (المنبت) سامة في هذا الوقت بالذات مع حلول وقت الحسم للمواجهة الإيرانية بشأن برنامج الأخيرة النووي الذي يسرع الخطى في مشواره متتبعاً استراتيجية الخطوة الاستباقية وفرض واقع ما على الأرض قبل الهجوم الأميركي الإسرائيلي المشترك وان الأخيرتين في تلويحهما بهذه المجزرة تضمن تعطيل المقاومة العربية الإسلامية الحليفة لإيران عبر إنشاء وخلق واقع عربي ضاغط على المقاومة في الداخل ومربك لخططها الموضوعة والمدروسة بناء على معطيات محددة، وخصوصاً بعدما فوجئت الصهيونية الأميركية بمدى صلابة وقوة وطول نفس المقاومة في لبنان. من جهة أخرى، تضمن حياد سورية الدولة العربية الوحيدة الحليفة لإيران كما تضمن غطاء عربياً رسمياً معلناً أو مستتراً بحسب ظروف داخل كل دولة وهنا أذكر القارئ الكريم بأهمية نموذج ما يجري في الداخل اللبناني بين تيارين يتصارعان في حرب باردة الأول تيار المقاومة والممانعة لمشروع الصهيونية الأميركية في المنطقة (منطقة الشرق الأوسط كبيراً أو جديداً) والتيار الثاني الموالي للمشروع إما بغير فطنة منه ولمصالحه التي ربما التقت والمشروع وإما بغير فطنة منه لأهداف المشروع الحقيقية وهم «المعشمون» بقطف ثماره، إننا نلحظ تصاعد وتيرة الصراع بين التيارين كلما اقتربت ساعة الحسم للمواجهة بين إيران والتيار المعارض لبرنامجها النووي على رأسه الإدارة الأميركية ما يعني تسخين وتهيئة ساحة المواجهة لصالح مشروع الصهيونية الأميركية والحقيقة أن حاجة الإدارة الأميركية للتفرغ والتركيز على مجابهة إيران (مع اقتراب تاريخ الحسم في المشكلة الإيرانية) دفع بها نحو الحسم في إصدار القرار 1701 بما تضمنه من ألغام ضد لبنان واضعة حدا لمشكلة حرب «إسرائيل» ولبنان ولو بالتنازل للفرنسيين، ولذلك فإن بوش مافتئ يصرح بضرورة إصدار قرار مكمل ومفصل للقرار 1701 وهو ما يجري الإعداد له بزيارة الأمين العام كوفي عنان المنطقة وبالتزامن مع تاريخ الحسم في المواجهة مع إيران وما ستترتب عليه نتائج مباحثات الأمين العام.
كل هذه الإشارات والترتيبات تعني بوضوح حقيقة والتقاء وحدة مصالح كل من تيار المقاومة والممانعة في الساحة العربية وتيار الممانعة للمشروع الأميركي في الساحة الإيرانية متمثلاً في حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومواقفها سواء من قضية العرب المركزية وتداعياتها أو من حقها في امتلاك القوة النووية كقوة ردع التي من شأنها أن تدفع في مجمل أهدافها نحو السلم والسلام وليس الحرب.
إن الظروف التي يمر بها الإقليم العربي الإسلامي وبعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 وبعد أن استقطبت الإدارة الأميركية حلفاء كثراً لها في خارج الإقليم وفي داخله تحت شعار استراتيجية الحرب على الإرهاب، مشكلة بذلك حلفاً إقليمياً دولياً توضحه إدارة الكيان الصهيوني بوصفه حلفاً دفاعياً ضد التهديدات الراديكالية لتضمن التقاء أهدافها مع أهداف دول إقليمية ومنها عربية في هذا الحلف ازاء هذه المعطيات، اليس الأجدر صراحة الدعوة إلى حلف دفاعي في المقابل يملك من قوة الردع بعضاً مما يملكه الحلف الأميركي الصهيوني؟، أما آن الأوان لنحدد أهدافنا الحقيقية وحلفاءنا الحقيقيين في هذا الإقليم المستهدف من القطب الواحد وحلفائه؟ أما آن الأوان لمن يرفع شعار الإسلام ووحدة المسلمين والدفاع عن مقدسات الإسلام ان يكف عن الشعارات ويتبصر في العمل الحقيقي المؤدي لنصرة الإسلام ومقدساته؟
إن وقت المراجعة لتاريخ خلفنا وآخر من أمامنا تؤرخه أزمات وفرص تفرض وحدة المواجهة وإعادة نهضة التاريخ الواحد الذي صنعه الإسلام بمسلمين تجاوزاً لقومياتهم وطوائفهم ضد عدو الإسلام ومنتهكي حرماته وكرامته ومقدساته قد آن الأوان لنواجه بصراحة وبقوة من يتوق إما إلى الحياة الكريمة وإما للشهادة العظيمة. ولنذكر جيداً أن ما يسمى بـ «النزاع العربي الفارسي» ما هو إلا لغم من ألغام عدة وضعه الاستعمار البريطاني في الإقليم ليسهل عليه إدارته وترويضه لتحقيق مصالحه الاستراتيجية التي لم تفته حين غادر الإقليم ليسلمه للحليف الأميركي بأن اطلعه على نسخة من خريطة الألغام التي ترشده في جولته القادمة في هذا الإقليم ولسنتذكر جيداً بعقل فاحص في حروب الخليج الثلاث ومسبباتها ولنعلم يقينا من وراءها انه هو العدو نفسه الذي يستقطب حلف الصهيونية الأميركية اليوم الذي آن أوان مواجهته موحدين أقوياء. ولنذكر قول الله تعالى في كتابه الكريم «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» (الأنفال: 60)
إقرأ أيضا لـ "وداد كيكسو"العدد 1462 - الأربعاء 06 سبتمبر 2006م الموافق 12 شعبان 1427هـ