العدد 1461 - الثلثاء 05 سبتمبر 2006م الموافق 11 شعبان 1427هـ

السودان بين التدويل وسيادة الدولة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عادت مسألة إقليم دارفور السوداني إلى واجهة الحوادث الإفريقية. والعودة جاءت هذه المرة من خلال إصدار دول مجلس الأمن القرار الدولي 1706. فالقرار رفع المسألة إلى مستوى التدويل وبات موضوع الإقليم يشكل ورقة ضغط على الخرطوم. وهذا ما رفضته الحكومة السودانية معتبرة أن مسألة الإقليم وطنية والتدخل الخارجي فيها يمس السيادة وحق الدولة في إدارة شئونها.

موضوع دارفور يتوقع له أن يشهد سلسلة تحولات قد تكون دراماتيكية بسبب تعقيداته السياسية وتداخل مشكلاته الاقتصادية بالإنسانية. الدول الكبرى استغلت الجانب الإنساني وراهنت على الانتهاكات التي تمارسها مجموعات مسلحة ضد السكان المحليين. وباسم حقوق الإنسان استطاعت عواصم الدول الكبرى ترتيب سلسلة اجراءات دفعت بالملف من زاوية إلى أخرى ومن سوية دنيا إلى أعلى وصولاً إلى مبنى الأمم المتحدة.

الحكومة السودانية بداية تعاملت بخفة مع الموضوع ولم تكترث لتلك التكتيكات التي اتبعتها الدول الكبرى (تحديداً الولايات المتحدة) في استخدام مشكلات المشردين والنازحين وضحايا المجموعات المسلحة التي يطلق عليها «الجنجويد» لجرجرة الملف ورفعه إلى أعلى هيئة دولية في العالم. فالخرطوم استخفت بالموضوع وتعاملت معه بسلبية ومن دون اكتراث ظناً منها أن مثل هذه المسألة المحلية لن تكون مصدر قلق أمني للدول الكبرى ولن تشكل نقطة توتر تعبر من خلالها الإدارة الأميركية لحسابات وغايات أخرى تتصل بالاكتشافات النفطية إلى الإقليم المجاور لحدود تشاد التي أظهرت التنقيبات انها تقوم على بحيرة نفط.

استهتار الخرطوم بالمشروع الأميركي المبرمج وضع الملف في موقع أعلى من قدرة حكومة السودان على التعامل معه. وبات موضوع الإقليم الآن مسألة دولية وأعطى صلاحيات للدول الكبرى بالتدخل في شئونه حين تأتي الفرصة المناسبة. فالقرار 1706 صدر تحت الفصل السابع ونص على فقرات أعطت التفويض اللازم للولايات المتحدة وغيرها بتشكيل قوات يسمح لها بالانتشار في الإقليم بذريعة حماية السكان من الاضطهاد والظلم والتمييز العنصري. وهذا التطور النوعي في ملف دارفور أدركته الخرطوم متأخرة وبات عليها الآن التعامل معه بصفته مسألة تخص الأمم المتحدة وليس مجرد موضوع داخلي يحق للدولة معالجته وفق الصيغة التي تراها مناسبة. وبسبب هذا التحول النوعي في قانونية الملف لم يعد بإمكان الخرطوم تجاهل القرار أو إهماله أو تجاوزه وإلا اعتبرت الخطوات مخالفة للشرعية الدولية التي أفرطت الولايات المتحدة في استخدامها واستغلالها في السنوات الأخيرة.

مواقف صحيحة

ردة الفعل السودانية السلبية كانت صحيحة في وطنيتها إذ اعتبرت القرار استفزازياً ويمس سيادة الدولة ويبعثر صلاحياتها ويمهد الطريق لتمزيق البلاد إلى مراكز قوى تتجاذبها الأقاليم المحلية وربما يفتح الباب لمزيد من التدخلات الخارجية ولا يستبعد أن تدفع هذا البلد العربي الإفريقي المسلم إلى حال من الفوضى الأمنية والاضطرابات الأهلية.

هذا الموقف السوداني المنفعل تفهمته دولة كبرى مثل روسيا. فموسكو انتقدت القرار معتبرة أنه أعد من دون «اجراءات مناسبة» مع حكومة الخرطوم. فالقرار برأي روسيا فرض فرضاً وانه انزل من فوق من دون تقدير لسلبياته وردود فعله حين يهبط بالمظلات الأميركية على أرض إقليم دارفور.

القرار فعلاً يعتبر إهانة لأنه تجاوز اعتراضات حكومة السودان ولم يأخذ ملاحظات الخرطوم في الاعتبار. والقرار أيضاً اخترق سلسلة حواجز وطنية وإفريقية وعربية وأعاد تشكيل رؤية دولية لمسألة محلية فيها الكثير من الالتباسات والتداخلات بين الجانب الإنساني والجوانب الأخرى المتصلة بالاستراتيجيا والجغرافيا الحدودية والاكتشافات النفطية وتنافس الشركات على الهبوط في الإقليم لاستغلال موارده وخيراته الطبيعية.

وبسبب هذا التعامل الفوقي من أعلى سلطة دولية مع حكومة السودان استنفر الرئيس عمر البشير العصبية وسجل اعتراضات متنوعة في رد فعلها على هذه السياسة التدخلية. فهو مثلاً قرر رفض نزول قوات دولية في الإقليم معرباً عن استعداده لخوض حرب مقاومة ضدها. وهو أيضاً طلب من قوات الاتحاد الإفريقي مغادرة الإقليم في نهاية 30 سبتمبر/ أيلول الجاري وعدم تمديد مهمتها التي كلفت بها قبل أكثر من عام وبضمانة من الأمم المتحدة. كذلك رفض الاستجابة لتلك الانتهاكات التي تمارسها الدول الكبرى باسم قرارات مجلس الأمن.

ردة الفعل السودانية صائبة في اشاراتها ومدلولاتها. فالقرار 1706 ينافس الدولة ويصادر دورها ووظائفها في الإقليم، فهو يعطي للقوات الدولية صلاحيات كبيرة ويوكل اليها مهمات من نوع مراقبة الحدود وحماية المدنيين وإنشاء جهاز قضائي مستقل. وحين تعطل وظائف الدولة ويعرقل دورها في مجالات الأمن والحدود والمراقبة وضمان حياة المدنيين (شكاوى وغيرها) يصبح الإقليم خارج سيادة حكومة العاصمة الأمر الذي سيعرض البلاد إلى حال من الانفصام أو الازدواجية بين الصلاحيات وسلطة القرار. وهذا قد يشجع لاحقاً على نمو نزعة انفصالية تطالب مجلس الأمن بالاستقلال.

حتى الآن لم يباشر مجلس الأمن في تطبيق القرار ولاتزال دوله تبحث عن آلية عملية تنقل الفقرات من نصوص نظرية إلى واقع معاش. فالأمم المتحدة كما يبدو منشغلة بالكثير من الأمور المتفجرة وهي ليست جاهزة كلياً لتنفيذ كل هذا الكم من القرارات العشوائية التي تصدر شهرياً عن مجلس الأمن. فالقرارات الفوقية كثيرة اما امكانات التعامل معها بواقعية أو تحويلها إلى وقائع ميدانية فتبدو المسافات بعيدة وتحتاج إلى طاقات وقدرات وأموال لتطبيقها. وهذا يرجح انه سيحصل إلى فترة في السودان.

الجانب العملي لا تكترث له كثيراً دول مجلس الأمن الكبرى. فهذه الدول لا تقيم أي اعتبار لردود الفعل وتلك السلبيات التي قد تنجم عن قرارات الزامية وفي الآن لا تملك تصورات فعلية لتطبيقها. وفي حال السودان يمكن تقديم دارفور نموذجاً على هذا النوع من الاستخفاف بمصالح الدول وسيادتها. فالخرطوم مثلاً وافقت قبل عام أو أكثر على نشر قوات إفريقية في الإقليم في خطوة اعتبرت محاولة للبحث عن حل وسط بين الدولة والتدويل. وانتشرت القوات بإشراف من دول الاتحاد الإفريقي على أن تتم رعايتها وتمويلها ودعمها من الأمم المتحدة. وهذا الأمر لم يحصل. فالقوات الإفريقية انتشرت ولم تدعم أو تساعد بقصد احباطها وافشالها لتبرير نقل الملف مجدداً إلى مجلس الأمن وتدويله وإعطاء صلاحيات تدخلية للدول الكبرى في شئون الإقليم واستتباعاً السودان.

حيرة سياسية

الخرطوم الآن في وضع صعب، فهي في حيرة سياسية من أمرها. فمن جهة لا تستطيع رفض القرار 1706 بالمطلق حتى لا تتهم بمخالفة القانون الدولي ومن جهة لا تستطيع قبوله بالكامل لانه ينتزع منها صلاحيات سيادية تتصل بأمن المواطنين ووحدة القانون والتشريع القضائي ومراقبة الحدود.

لهذه الأسباب مجتمعة تبدو حكومة البشير متوترة في قراراتها وقلقة من احتمالات تداعي ملف دارفور وتحويله إلى ذريعة للتدخل في شئون السودان كله. فالحكومة متخوفة من طرد القوات الإفريقية كذلك تبدو غير واثقة من دور هذه القوات. فهي تارة تطلب منها انهاء أعمالها ومغادرة الإقليم وطوراً تطلب منها البقاء بشرط ألا تتحول إلى قوات دولية أو جيش تابع للأمم المتحدة يأخذ أوامره من دول مجلس الأمن لا من دول الاتحاد الإفريقي.

المسألة إذاً تتعلق بالسيادة في زمن تحول فيه مجلس الأمن إلى هيئة تعيد إنتاج وظائف الدول الوطنية بأسلوب يتوافق مع مصالح الدول الكبرى وخططها ومشروعاتها التي أخذت تعكس سياسات الشركات المتعددة الجنسية. فالشركات المذكورة غير قومية وتقوم على مصالح قارية تخترق الحواجز الطبيعية والوطنية واللغوية والدينية ولا تحترم اختلاف الثقافات ولا تكترث كثيراً بمصالح الناس وحقوق الانسان. وهذا النوع من الشركات العالمية بدأ في العقود الأخيرة يتحول إلى طرف يقود الدول الكبرى ويرسم سياساتها وفق تصورات لا تتناسب مع مصالح شعوب تعتبر نامية أو دولاً فاشلة في التعامل مع خيراتها وثرواتها وشعوبها.

المشكلة في هكذا شركات متعددة الجنسية أنها بدأت أخيراً في التسلل إلى الهيئات الدولية في محاولة منها لإعادة صوغ قوانين تعطي صلاحيات تدخلية في شئون محلية تعتبر خرقاً لسيادات الدول. ولهذه الأسباب بدأ العالم يشهد هذا الافراط في استخدام مجلس الأمن واسطة لعبور الدول الكبرى (الشركات الكبرى) إلى ساحات الدول الصغرى وبعثرتها من الداخل سواء بالضغوط الدبلوماسية أم من خلال افتعال حروب وتقويض الدول من الخارج كما حصل في افغانستان والعراق وأخيراً لبنان... وربما غداً في السودان

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1461 - الثلثاء 05 سبتمبر 2006م الموافق 11 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً