العدد 1460 - الإثنين 04 سبتمبر 2006م الموافق 10 شعبان 1427هـ

الـ «غونغو»...الديمقراطية التي لا تضر

«الحكومات»... عبر «العقل الأدواتي» وصناعة مؤسسات المعارضة الرديفة

عادل مرزوق Adel.Marzooq [at] alwasatnews.com

-

كيف تدير السلطة - أية سلطة - لعبة الديمقراطية التي لا تضر؟، كيف تجعل من الأجواء ديمقراطية حقاً، إذ تتم مجريات الأمور فيها عبر آليات ديمقراطية بالكامل كما تبدو في الظاهر، لكنها - في الوقت نفسه - ديمقراطية مضمونة العواقب، تنفع السلطة، ولا تضر.

الغرب عايش مثل هذا النموذج، وأشتكى منه، وفي هذا السياق انتشرت الانتقادات المعرفية والنظرية للديمقراطية، حتى وصفت - الديمقراطية - بأنها أكبر خديعة مرت على تاريخ البشرية منذ الأزل. وفي إطار هذا الجدل وجه الفيلسوف الألماني هابرماس نقدا شاملا لما أسماه بالعقل الأداتي، وهو من أنتج الديمقراطية التي يحتفي به العالم كذباً، هابرماس لم يكن الأول، بل كان متبعاً لدروب آخرين سبقوه، منهم: هوركهايمر، وأدورنو، وماركوز، وغيرهم من فلاسفة مدرسة فرانكفورت.

العقل الأداتي هذا قام بصوغ الديمقراطية وفق معادلات معقدة، أنتجت في النهاية مسخاً اسمه «الديمقراطية»، هذا المسخ يظهر جميلاً، أنيقاً، إنسانياً، عقلانياً في الخارج، لكنه في الداخل متهرئ لا حقيقة فيه ولا عقل، لا يمثل من قريب أو بعيد أية قيمة من قيم الحرية.

اخترع العقل الأداتي في الحكومات والسلط السياسية في العالم أجمع عدة آليات مارس من خلالها خداع الإنسانية، فإذا بالديمقراطية تختبئ خلف أعنف صور الدكتاتورية من دون أن ندري.

ويقترح هابرماس استثمار نظريته «العقل التواصلي» نحو تحرير مجال الاتصال الإنساني من قبضة العقل الأداتي والتشيؤ والاغتراب (حسن مصدق). هابرماس والعقل الأدواتي هما النقيض الأقوى حتى اليوم في مقاومة النماذج العقلية الأداتية والساعية لصناعة حقائق لا علاقة لها بالمجتمع، إذ الديمقراطية أداة تسيرنا لما كان يخطط له أن يكون، وليس لنا إلا أن نتبع منتجات الآلة، أين تنتهي بنا.

ولان مشروع الحداثة لم يكتمل بعد، بحسب هابرماس، كان لابد لنظرية التواصل خاصة أن تبحث في الاستخدامات الأداتية للعقل، مشتغلة بقوة نحو التجرؤ على نقد الديمقراطية التمثيلية وإسقاطها من أعلى برجوازيتها العقلية.

ديمقراطيتنا... اللعبة

«الديمقراطية»، اكتسب هذا المصطلح شحنته بسبب افتقار هذه المنطقة إلى العدالة والحرية، وبسبب تحكم الاستبداد فيها، ما جعل من الديمقراطية حلما شحنت فيه كل المطالب السياسية، وعلقت عليه كل الآمال ( أحمد قعلول)، وهكذا أصبحت أية مرحلة انتقالية للديمقراطية - مهما كانت اختلالاتها - تعني بالضرورة الكثير من الانتقالات التي تأتي خلفها، وتعني بالضرورة - خداعاً - ان جنة الله باتت حقيقة على الأرض.

الديمقراطية في هذه الصورة أكثر من أن تعتبر مطلباً سياسياً واحداً كالبرلمان مثلاً، بل هي بيئة متكاملة ومتسقة في بوتقة منمقة، خيالية طبعاً ولا حقيقة فيها، إلا أنها تغري بالقدر الكافي لتنامي ذلك الإحساس بالسعادة، وأن الأيام المقبلة ستكون أفضل وأفضل.

لم نسأل أنفسنا يوماً ما، لماذا نفترض ضمنياً - وكأنه من المسلمات العقلية - أن الديمقراطية شيء ثابت، بمعنى أننا نستطيع تطبيق الديمقراطية بسهولة لا تعقيد فيها، هكذا «كن فيكون!»، قرار سياسي يقتضي تطبيق الديمقراطية يفي بالغرض، لعل هذا الاعتقاد هو أكثر هراء يستحق أن نقاومه جميعاً، إذ يحدد بيير بوردو - وظيفة المثقف - بأنه ذلك الشخص الذي يقاوم الهراء، والديمقراطية الجاهزة هي هراء من المستوى الذي يحتاج إلى شيء من التخريب الجميل.

إذا كانت أوروبا هي حاضنة الديمقراطية، فإن للديمقراطية تطبيقات متعددة داخل أوروبا ذاتها. فالديمقراطية الفرنسية مثلا مختلفة عن الديمقراطية البريطانية، ما يسمح لنا بالحديث عن تطبيقات مختلفة للديمقراطية، بحسب البلد، وبحسب الأعراف، وبحسب القوانين، التي يتواضع عليها اللاعبون المشاركون في العملية الديمقراطية (أحمد قعلول).

هذا ما يحيل على أن أي تجربة ديمقراطية في أي بلد ما هي خاضعة - بالضرورة - لمتغيرات عدة لابد من الاهتمام بأنماط اشتغالها وتأثيرها في التجربة، أحد الأصدقاء المهتمين بدراسات علم الاجتماع السياسي في البحرين تحدث في يوم من الأيام في جلسة مناقشة حادة على انه بات غير قادر على تحديد نمط التجربة البحرينية اجتماعيا، فيقول: (ليست السياسة الحكومية البحرينية خاضعة للمفهوم القبل، وهي ليست بالمدنية، ما هذا النموذج الذي تتبعه الدولة...؟، في حقيقة الأمر، أنا عاجز عن الفهم). وهذا تحديداً ما يجب التنبه له إذ تبقى عملية الدمقرطة - في أي مكان - ليست أكثر من لعبة معقدة، ولا يمكن الإمساك بخيوطها إلا بنظر دقيق ومرّكز.

تأكيداً على ذلك، يستعمل الأنغلوسكسونيون- الأميركيون والبريطانيون - كلمة «لعبة» عند الحديث عن الممارسة السياسية، وهم يميزون بين اللعبة الوسخة واللعبة النظيفة، (...) وللعبة جائزة يفوز بها أحد اللاعبين، أو يفوز بنصيب الأسد فيها. فاللعبة هنا هي الديمقراطية، والجائزة هي السلطة، واللاعبون هم الأحزاب السياسية، والقانون المعروف والأبرز لهذه هو الاحتكام للرأي العام. (أحمد قعلول)

في التجارب الخليجية، ومنها تجربتنا البحرينية بالطبع نحن نعيش في لعبة - قد يحتج البعض على هذا التوصيف إلا انه «مجاز» ورقة بحث سياسية لا يستحق الكثير من التأويل - لابد من الإحاطة بدينامكية اشتغالها.

في البحرين، الحكومة اليوم يمسك بزمام الأمور، جميع خطابات المعارضة البحرينية منذ مطلع التسعينات أصبحت خطابات حكومية صرفة، الحكومة من ترعى البرلمان والمعارضة في الخارج، صحيح أن المعارضة تحاول أن تكشف عن بعض جوانب من القصور في التجربة، لكن الحكومة تدير أمورها بشكل فاعل ومقنع داخلياً، ومقنع - بشكل أهم - دولياً.

من جهة أخرى، تقوم اللعبة السياسية على نظرة دونية للآخر بما أنها تحوله إلى شيء صالح للاختبار والتجريب ثم التنفيذ. ونشأت عن هذه الفكرة ما يسمى بنظريات الديمقراطية القائمة على نخب محترفة للسياسة، واعية بآليات اللعبة وبحدودها (أحمد قعلول).

وهذا، ما جعل من الحكومة الفاعل الوحيد في المسرح السياسي البحريني، فالحكومة هي من تكون صاحب المبادرات السياسية في البحرين، والمعارضة في الواقع باتت عاجزة عن الحراك. الحكومة باتت تضغط على المعارضة بالأدوات نفسها التي كانت المعارضة تستخدمها في السابق، يصف بعض المراقبين هذه الاشكال بأنها سرقة محترفة وقانونية لـ «مشروع المعارضة» بالكامل.

الغونغو لعبة الحكومات أمام المعارضة

الـ «غونغو» هي منظمات أهلية غير حكومية تؤسس تحت غطاء حكومي، في البدء عمدت الحكومات إلى إنشاء مثل هذه المنظمات والجمعيات ليتسنى لها الحصول على مساعدات خارجية من دول أخرى أو من المنظمات الدولية.

أما الاستخدام السياسي المخادع فهو يعتمد على استثمار مثل هذه الجمعيات لممارسة الضغط على الجمعيات السياسية والحقوقية الخارجة من عمق المجتمع، والتي هي في الغالب ذات التوجهات معارضة للحكومة، وذلك عبر خداع الناخبين وتشتيت أصواتهم، ولعل النموذج الروسي كان الأبرز في هذا السياق مثلاً، تغلق دولة ما جمعية حقوقية ما ذات توجه معارض، لتفتتح عبر أسماء اجتماعية مضمونة الموالاة جمعية أخرى حقوقية أيضاً، فتظهر الجمعية الحقوقية كمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني، ويظهر دعمها لبرامج الحكومة وتوجهاتها بأنه دعم شعبي لا غبار عليه.

يعرض أسامة عبدالرحمن في إحدى أهم مقالاته صورة نسبية لهذه الجمعيات والمنظمات والأحزاب وطرائق خداعها للناس، حيث يقول: «الأحزاب المعارضة إن كانت هناك أحزاب معارضة، هي تجميل للصورة الديكورية للديمقراطية في الكثير من الأقطار العربية، بحيث يبدو الأمر كأن هناك تعدداً في الأحزاب، وان هناك تنافساً على الموقع أو المواقع السياسية، وليس هناك في الحقيقة أي تعدد للأحزاب إلا أن كان تعدداً صورياً».

بحرينياً، الناشط السياسي عبدالرحمن النعيمي تنبه لهذه الآلية التي تتبعها الحكومات، وصنف بعض الجمعيات في البحرين بأنها جمعيات GONGO، لكنها لم يطلق هذه التسمية نصاً، وأتهم النعيمي هذه الجمعيات بأنها ذات صلة بالأجهزة الحكومية بحسب رأيه، يقول النعيمي «أو تلك الجديدة التي لم تر النور بعد سوى البالونات التي وزعها البعض (...)، ويكون في الطريق الكثير من الجمعيات الإدارية ذات الصلة مع الأجهزة الحكومية».

ويصف النعيمي هذه الجمعيات السياسية والحقوقية في جزء أخر من مقالته بأنها أطراف مشبوهة، إذ يقول «وخصوصاً أن هناك بعض الأطراف المشبوهة التي تسعى لإثارة الفتنة الطائفية عبر اللافتات المشبوهة المنسوبة إلى الشيعة أو الاعتصامات المحدودة (...) والموجهة أساسا ضد الجمعيات الأربع، بالإضافة إلى حشد السلطة لعدد من الأندية والصناديق الخيرية لشجب التحركات الخارجية للجمعيات السياسية (...) وتم التعبير عن ذلك في مقالات كتبة وصحافيين تخصصوا في ذلك».

في التجربة البحرينية لم تعمد الجمعيات السياسية المدنية إلى مهاجمة هذه الجمعيات السياسي والحكومية، المصنعة حكومياً، وفي الحقيقة كان من النادر أن أجد تصريحاً لأية شخصية أخرى من المعارضة خلاف النعيمي كانت قد خصصت لهذا الموضوع ولو مقال واحد، هذا لا يعني أن النعيمي كان قد تطرق إلى هذا الموضوع بإسهاب، والتعليقات التي استثمرتها في هذه المقالة إنما هي جمل عرضية من مقال موضوعه الرئيس لا علاقة له بموضوع هذه المقالة.

إن هذه الجمعيات السياسية والقانونية التي تصنعها الحكومة تلعب كموجه اجتماعي داخلي يفرض على الإنسان مقررات لم يخطط لها بنفسه، تحاول أن تصنع حقائق كان قد تمت صناعتها مسبقاً، قد توجه هذه الجمعيات وخصوصاً الحقوقية منها خطابات تتصف بنوع من النقد للحكومات التي صنعتها بالأساس، لكن خطابات المعارضة هذه إما أن تكون أدوات توهيم أخرى للمجتمع، أو أن تكون مقدمات معدة مسبقاً - حكومياً - لأجندات أخرى مسكوت عنها ولما تظهر للعيان.

يتضح لنا أن هذه الأداة الجديدة هي عبارة عن لعبة حكومات تسعى لصناعة رأي عام ديمقراطي جديد، لكنه مضمون النتائج، وموجه بالطريقة الصحيحة، لعبة لمزاحمة المؤسسات المدنية في نمطها الطبيعي والتمثيلي للمجتمع بشتى تعقيداته وتفرعاته واختلافاته.

الذي يبعث على التشاؤم حقاً في النماذج العربية أننا أمام مشكلتين مركبتين، فالديمقراطية التمثيلية تمثل مشكلة لما تنتهي من حسمها الأدبيات السياسية في الغرب، وتلك مشكلة أولى. أما المشكلة الثانية فهي أن دول المنطقة لم تكتفي بذلك، بل باتت تزاحم شعوبها في نتائج هذه الديمقراطية المشوهة أصلاً. (عادل مرزوق - الصحافة المدنية في المجتمع المدني).

في الحقيقة، الديمقراطية لا يمكن أن تفرض بقرار سياسي، وهكذا لم تخرج الديمقراطية في الغرب عن هذا السنن إذ لم تنشئها قوانين أو تمنحها حكومة لشعبها وإنما أفرزها سياق تاريخي وتراكم حضاري أسهم فيه ساسة ومفكرون استطاعوا المزاوجة بين ماض استوعبوه وأخذوا أحسن ما فيه - سياسيا وتقنيا - ثم تجاوزوه إلى حاضر أرادوا أن يؤسسوا نظامهم السياسي وفق مقتضياته انطلاقا من رؤية حضارية. (محمد المهدي ولد محمد البشير).

ولهذا يصنف برهان غليون هذه النتائج الكارثية بأنها نموذج ما تحت الحداثة، ويسهب غليون في بيان هذا النموذج بقوله: «إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثة. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أية سابقة على الثورات الأساسية التي شكلات قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لاتزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية».

وعلى أن أكثر المحللين مازالوا قابعين في مستويات التحليل السياسي لما قبل اشغالات هابرماس، كما هو الحال لدى أحمد قعلول إذ يقول (يبقى المشكل أننا في العالم العربي لا نحتاج فقط إلى تبني الديمقراطية، فنحن نحتاج إلى القدرة على وضع قوانين للعبة تضمن حقوق الشعوب المحكومة، كما تضمن تمثيلية حقيقية لمصالح تلك الشعوب). فإن التجربة الخطاب السياسي الأكثر صدقية هو معارضة نموذج الديمقراطية التمثيلية في المطلق، إذ أثبتت تجارب كثيرة حولنا أنها ببساطة «عديمة الفائدة» إذ تم اختراقها بأدوات أقل ما يمكن أن توصف به أنها «غير مفهومة»، أو بتعبير أكثر صدقية أيضاً «كارثية».


جمعيات الـ «غونغو»

GONGO = Government-Organized Non-Governmental Organization

جمعيات الـ «غونغو» هي جمعيات تؤسسها الحكومة وتزرعها داخل المجتمع المدني، وتتحرك على أساس انها جمعيات أهلية، ولكنها في الواقع مؤسسة رسمية تتخذ من الطابع الأهلي - المدني غطاءً لتحقيق أهداف حكومية تحت قناع أهلي.

وفيما اعتبرت مؤسسات المجتمع المدني ضرورة لتنمية الممارسة الديمقراطية، يعتبر المراقبون جمعيات الـ «غونغو» أداة تستخدمها الدولة لقمع التوجهات الديمقراطية باسم المجتمع

إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"

العدد 1460 - الإثنين 04 سبتمبر 2006م الموافق 10 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً