كلما سَنَحت لي الفرصة لأن أتابع الحدث الإيراني بالعين المُجرّدة وبالذات لموقعية رئاسة الجمهورية وبالتالي صورة أحمدي نجاد، أتذكّر بتأسّي السنوات الثمان التي كان فيها السيدمحمد خاتمي رئيساً لجمهورية إيران الإسلامية، وبين تلك المتابعة وهذا الاستذكار أفهم جيداً أن أحمدي نجاد هو بالمطلق أوفر حظاً من محمد خاتمـي الذي طحنت عظامه الهموم والسنون.
كان خاتمي ضمن التوليفة الخُردادية المُقابلة لتيار المحافظين، يُعاضده في ذلك البرلمان السادس الذي سيطرت عليه المجاميع الإصلاحية بقيادة جبهة المشاركة المتطرفة، في حين ظلّت باقي السلطات مُوزّعة على التيارات السياسية الأخرى، أمام القوى غير المرئية في النظام والتي تتمتّع بنفوذ وسلطات مُوازية فقد كانت طلقاً لقوى اليمين المتشدد، وعلى رغم ما كان يعمله المُرشد الأعلى للثورة الإسلامية أو مجمع تشخيص مصلحة النظام من توازن في عملية المحاصصة والنفوذ فإن المعادلة كانت تسير بذلك الشكل.
وبالرجوع إلى عهد الرئيس محمد خاتمي سنرى أنه وفي أقل من ثلاثة أعوام واجهت إيران ميزاناً عسكرياً وأمنياً مُضطرب في جوارها القريب، فقد غزت الولايات المتحدة الأميركية في العام 2001 أفغانستان لإسقاط حكومة طالبان وضرب تنظيم القاعدة، وبعد عامين غزت العراق بحجّة أسلحة الدمار الشامل، والجميع يعلم كم هي الأخطار التي تُحدثها الحروب المباشرة وغير المباشرة على ميزان الأمن القومي للدول وخصوصاً لإيران التي بدأت تُقابل الولايات المتحدة صدراً بصدر على أراضي دولتين مُجاورتين لها، بالإضافة إلى أن تلك الفترة شهدت حوادث الحادي عشر من سبتمبر ومُعظم ضربات القاعدة في الخليج واليمن وأوروبا، وأيضاً ظهور أزمة الملف النووي الإيراني التي تصاعدت منذ العام 2002، وفي الجانب الاقتصادي عانت حكومة السيد خاتمي من أزمة اقتصادية خانقة عندما هَبطت أسعار النفط إلى أقل من ستة دولارت في العام 1999.
الأمر الذي أضَرّ كثيراً بالخطة الخمسية الثالثة التي اضطلعت بها حكومة الإصلاح وبالتالي فإن الحوادث الداخلية والإقليمية والدولية كانت بالحجم الذي قوّض من عمل الحكومة الخاتمية أو أعاق كثيراً من أعمالها، أما الآن ومنذ وصول أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية فإن الأمور في معظمها قد آلت إلى خير بالنسبة إليه، فقبل وصوله بعامين تقريباً كان المحافظون قد سيطروا على المجالس البلدية في المحافظات والمدن المهمّة، وقبل عام أيضاً من وصوله كان المحافظون قد سيطروا على البرلمان السابع وهو ما أمّن له فرصاً جيداً لتمرير مشروعات الحكومة التاسعة بأقل الخسائر، وبما أن نجاد هو من رحم التيارات اليمينية المحافظة فقد لقي دعماً مُطلقاً من معظم الأجهزة التنفيذية والرقابية والتصويبية والقضائية في النظام، أما القوى الموازية فقد كانت أهم حليف استراتيجي له، وخصوصاً أن نجاد نشأ بين مراكزها إلى أن ارتقى كأحد قيادييها الطليعيين.
كذلك بدت الساحة السياسية الإيرانية الداخلية خالية من أي احتقانات حزبية أو مُناكفات بعد الضمور الذي أصاب القوى الإصلاحية بعد هزيمتها في الانتخابات التشريعية والبلدية وبات حضورها الرسمي والشعبي تشريفياً أكثر مما هو تنفيذي، بالإضافة إلى أن أوضاع الملف النووي الإيراني قد هدأت عندما فاز نجاد بعد اتفاق باريس، وبدأت الدول الأوروبية تتحدث عن عروض اقتصادية ستقدمها إلى طهران لثنيها عن تخصيب اليورانيوم، من الجهة الأخرى وعلى المستوى الأمني في الجوار، كانت الأوضاع في أفغانستان قد تماسكت إلى حدّ ما وتشكّلت حكومة كرزاي وأجرت الانتخابات، وفي العراق وإن بدا الأمر أكثر قتامة إلاّ أن العملية السياسية قد بدأت في التبلور بعد قيام مجلس الحكم المحلي، وانتهت لاحقاً الإدارة المدنية لبريمر في يونيو/ حزيران 2004، وسيطر حلفاء طهران على مقاليد البلاد والعباد، أما اقتصادياً فقد تحسّنت أسعار البترول ووصلت إلى أكثر من سبعين دولاراً الأمر الذي سمح لحكومة أحمدي نجاد أن تزيد من احتياطي العملة الصعبة إلى أربعين مليار دولار في فترة قياسية. هذه المقاربة بين العهدين وودت أن أخلص منها إلى أمر مهم يتعلق بالخطاب السياسي والثقافي والديني الذي ينتهجه الرئيس أحمدي نجاد منذ وصوله في أغسطس/ آب من العام 2005، وهو الخطاب الذي ارتبطت مكوناته بعلاقة تماثلية يُمكن ملاحظتها في غالبية خطب ومبادرات أحمدي نجاد سواء عن المحرقة اليهودية أم رسالته إلى الرئيس بوش ثم مطالبته الأخير بمناظرة حرة لا تخضع للرقابة.
كذلك يتبيّن من خطاب نجاد وكأنه يرتكز على المثل الصيني القائل إن مصيبة عند البعض تعتبر فرصة عند الآخرين! فهو يعرف أوضاع الأميركيين في جواره العراقي جيداً، ويفهم أيضاً خطابهم المقاطعي المضطرب والهادف إلى نزع الشرعية الدولية عن السياسات الإيرانية في المنطقة والعالم، لذلك فإن عدم تعامل الخطاب الأميركي بواقعية قد أدى في المقابل لأن تتشكّل مساحة خصبة لسياسة راديكالية تعتمد على التناقضات القائمة في المنطقة، وإلى تحدٍّ منزوع الأنياب بين الخصوم، هذا في الوقت الذي يلقى فيه أحمدي نجاد ثقة وتفويضاً كاملاً في الداخل لأن يُنفّذ برنامجه وبالتالي إعمال الخطاب السياسي والديني لمجاميع المحافظين بأفضل صوره بعد غيابهم عن السلطة طيلة ثمان سنوات، والأكثر من ذلك هو أن ذلك التفويض سمح للرئيس بتمييع تابوات في العرف السياسي الإيراني الحديث ليتحول الخطاب النجادي إلى سيميوتيقا لإنتاج نصوص شرعية لا يُمكن التشكيك فيها، إلى الحد الذي ذهب فيه آية الله جنتي إلى وصف رسالة نجاد إلى بوش بأنها «إلهام إلهـي»!
في جانب آخر من الملف يُلحظ أن الرئيس التعميري وعلى رغم أنه كان من أبرز الناقدين لأداء حكومة محمد خاتمي فيما يتعلق بضعف تواصلها مع الشعوب الإسلاميـة عبر خطاب «السوق» الأمر الذي أظهر قومية إيران على حساب القضايا الإسلامية، إلاّ أننا نجد أيضاً خطاب الرئيس يُحاكي ذلك ولو بصورة مُختلفة مع تمازج محسوب لما كان يُنادي به، وعادة ما يُشير في خطبه إلى «تاريخ الأمّة الإيرانية» ومكانتها بين الشعوب، خصوصاً في الملفات التي تحتاج إلى اصطفاف شعبي داخلي كالملف النووي الإيراني أو احتمال تعرّض إيران لهجوم عسكري صهيوني أو أميركي، وفي ذلك يُمكن ملاحظة مدى اعتماد الخطاب السياسي لنجاد على الحضور السكاني الضخم للشعب الإيراني والذي تجاوز تعداده السبعين مليون نسمة في قِبال شعوب دول الخليج الذي لا يتجاوز مجموع سكان دولها الست الواحد والخمسين مليون نسمة، كذلك ارتكز الخطاب السياسي لأحمدي نجاد من منطلق قدرة إيران على امتلاك احتياطيات هائلة من الطاقة المحركة للعالم، 16 في المئة من الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي، و9 في المئة من الاحتياطي العالمي من النفط، وهي رسائل قد تُفيد بقدرة طهران على التلاعب بمصير الطاقة الأحفورية في العالم وسط تزايد سطوة رأس المال والشركات الصناعية الضخمة.
في افتتاح معمل آراك للماء الثقيل قال نجاد إن بلاده لا تُشكّل تهديداً لأحد بما فيها الكيان الصهيوني الأمر الذي فهمه البعض أنه تحولٌ قي الموقف الإيراني، إلاّ أن المتتبع للسياسة الإيرانية في المنطقة ولسلوك أحمدي نجاد المثير للجدل يُدرك أن ذلك الخطاب لا يخرج عن سياسة المفاجآت التي بدأها الرجل منذ وصوله إلى السلطة قبل عام بجرأة غير عادية، ومن جهة أخرى أن ذلك الخطاب أيضاً لا يخرج عن مساحة التكتيك السياسي، وخصوصاً أن طهران كانت قد قدّمت ردّها على الحوافز الأوربية من دون الالتزام بالقرار 1696 القاضي بوقف عمليات التخصيب، كذلك جاء التصريح متزامناً مع مناورات ضربة ذو الفقار العسكرية التي أجراها الجيش الإيراني في أكثر من سبع عشرة محافظة، وبالتالي فإن الخطاب جاء تخفيفياً ومتناغماً مع رسالة المناورات من أن إيران لن تُبادئ بالحرب ضد أية دولة لكنها مستعدة لها في أي وقت، كذلك يأتي التصريح ضمن لعبة المناورات وتوزيع الأدوار عبر إعطاء إشارات غير مُتفقة للوقوف على مجسّات إقليمية.
هذا الخطاب لأحمدي نجاد وغيره يعكس الثقافة السياسة التراكمية والطبيعة الاجتماعية والفكرية والطبقية للنخب الرئيسية ثم الأهداف والاستراتيجيات الكبرى كما يقول رونالد جيليكوت، وبالتالي فإن نجاد هو افراز اجتماعي لحال تدعّمت تدريجياً بفضل عوامل التعرية الحزبية التي تآكلت نتيجة الصراعات التي عاشتها الأحزاب الإيرانية لينتهي بها المطاف إلى انقسام عمودي حاد وفقدان الكثير من الصدقية الاجتماعية والسياسية
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1459 - الأحد 03 سبتمبر 2006م الموافق 09 شعبان 1427هـ