ما بال أهلنا وأحبتنا وكتابنا ومثقفينا (المزايدين بعروبتهم) يتسابقون في جرح مشاعرنا، ودوس كرامتنا واهانتنا واتهامنا في نوايانا والتشكيك في اخلاصنا لأوطاننا، وتشويه تاريخنا، وقراءة الحوادث بمحامل سيئة لا تحفظ لنا حق المواطنة ولا الجيرة ولا الأخوة، ولا حق الفصل بين ما هو سياسي يتأثر بالمصالح ويقبل الصواب والخطأ، وتمارسه طبقة من الناس وبين ما هو ديني وعقدي وانساني.
كتاب واعلاميون ومثقفون من الطراز الأول في الشهرة والمكانة والموقعية كانوا وإلى أمد قريب يكتبون ما يُضمد جروح المجتمع ويجمع مكوناته ويدفعه الى الوحدة والرضا عن بعضه، بروح انسانية رفيعة، تعلو وترتقي فوق التفاصيل والأطر والمذهبيات، وبين عشية وضحاها تنقلب أقلامهم على أعقابها لتكتب في دهاليز الضيق والظلام والفرقة والاختلاف، والتهم والافتراءات.
يلحظ المتابع للشأن العام، والقارئ لما تتناوله الصحف في هذا المضمار سوقاً نشطة تعرض فيها بضائع الاتهامات الرخيصة، وتلقى فيها التشكيكات على عواهنها من دون تريث ولا وازع، بل هكذا بلا دين ولا أخلاق ولا إنسانية، فبغضب وقسوة وانفعال شديد، يصبح العدو الحاضر والمستهدف في المعارك الثقافية والسياسية القائمة هم الشيعة، فتارة يسمون بالفرس وأخرى بالخونة لأوطانهم وثالثة بالعملاء لإيران ورابعة بالعملاء للأميركان، وهكذا قائمة طويلة ليس لها حد ولا نهاية.
بدأت مسيرة الاتهامات حين سقط شرطي الشرق الأوسط (شاه ايران السابق) فارتعدت وارتعبت فرائص كثيرة، وشوه هذا النصر الذي أسقط العميل الأول لأميركا و«إسرائيل» والمرعب للخليج برمته، وبدأت النبرة التي تتحدث عن دور المجوس المقبل في العالم العربي ترتفع وتعلو وتملأ الفضاءات، وضخت الأدبيات التي مزقت المجتمعات شر تمزيق.
وفي العراق وما أدراك ما العراق؟ آلام الشعب لا تتصور فالسجون مكتظة والمقابر الجماعية في كل مكان، والتهجير قائم على قدم وساق، والدماء تشخب وقد ملأت الرافدين(دجلة والفرات) وخصوصاً في الانتفاضة الشعبانية، والشعب يستصرخ ضمير العالم العربي الغائب أو النائم أن يعينه وينقذه من محنته فلا يجد من عالمه العربي الا الأذن الصماء والقلب القاسي و(التطنيش) المتعمد لآلامهم وعذاباتهم.
ولما أسقط الأميركيون طاغية العرب (صدام حسين) وجد الشيعة فسحتهم ليكونوا الى جانب غيرهم شركاء في بلادهم، هنا بدأت المعزوفة الجديدة باتهامهم بالعمالة لأميركا والخيانة للعالم العربي والاسلامي، وقد روجت هذه المقولة بقوة حتى أصبح قتل الشعب العراقي جهادا تنبري له المجاميع المليئة بالحقد والارهاب من كل بؤر التطرف في العالم العربي والاسلامي، في مثابرة منقطعة النظير، إذ لاتزال الدماء تسيل هناك منتظرة الساعة التي يصبح فيها دم المسلم على المسلم حرام الى يوم القيامة.
وفي لبنان أبت المقاومة الا التحدي والمواجهة للعنجهية الاسرائيلية والاميركية على حد سواء، وبذلت أرواحها رخيصة لعزة دينها وعروبتها وانسانيتها، لكنها لم تسلم من التشكيك في وطنيتها وعروبتها واخلاصها لترابها الذي روته بالدم وملأت فضاءاته بصرخات التكبير والنصر للاسلام.
وفي أي بلد عربي واسلامي حين يتحرك الشيعة مطالبين ببعض حقوقهم وحرياتهم (ضمن اطارهم المحلي المسموح به) كما يتحرك الشعب المصري أو الأردني أو الجزائري، فإنهم يعدون طابوراً خامساً ويتهمون بالتواطؤ ضد أنظمتهم وحكوماتهم القائمة.
والمفارقة الكبيرة هنا أنهم حين يميلون الى السكون والصبر على ما يحيط بهم من أذى وتوبيخ وسلب لكرامتهم(في أية منطقة) فإنهم يتهمون بممارسة التقية السياسية وأنهم بانتظار اللحظة التي ينقضون فيها على بناء دولتهم وأنظمتهم.
ان الحوادث تكشف أن هذه التهم أبدية مزمنة، وان المراهنة على ايقافها بوسائل أخلاقية فقط، وبمؤتمرات للحوار مع فقد الآليات التي تسيّل حبرها الى التطبيق الفعلي، وبالكلمات التطمينية من هنا وهناك، لن تنتج ثمراً حقيقياً.
إن المثمر فعلا هو احتواء هذا الوجود(الذي أؤكد أنه ينتظر ذلك بفارغ الصبر) ضمن الأطر الرسمية، وتفعيله ضمن مؤسسات الدول القائمة، لأننا لو أردنا توصيفا دقيقا للتوجس والتهم الموجهة لهذا الوجود، فلن نجد أفضل من القول إن هناك عجزاً حقيقياً عن هذا الاستيعاب، ما سبب اقصاءه وإبعاده في الكثير من الدول، وهذا ما أحدث فجوة هائلة قبلت أن تمكث فيها الكثير من النفايات والتهم والشكوك والهواجس، لتتخذ مبرراً لمزيد من العلاقات المتعسفة والمتنافرة.
فإذا قام الوضع الرسمي بأداء ما عليه من واجبات اتجاه ابنائه وأهله وأشعرهم بالمساواة، ورفع عنهم الكثير من الخطوط الحمراء التي تعرقل حركتهم الطبيعية ونموهم ضمن كيانهم الأكبر، فإنه سيشعر ضميرياً بالرضا وستقل هواجسه ومخاوفه منهم وسيقطع كل السبل الخارجية التي يكثر القول إنها تسعى إلى مصادرتهم بعيدا عن قرار بلادهم، سواء كانت تلك القوى أميركية أم إيرانية أم غيرهما.
كما أن من المهم لدولنا العربية والاسلامية أن تأخذ زمام المبادرة وبروح أبوية كبيرة ومنفتحة لا تحدها الأطر ولا الاختلافات ولا المذهبيات لمعالجة أي جرح وألم في وضعنا العربي بغض النظر عن الطائفة التي تشكو من ذلك، لكي تكون تلك الكيانات قريبة منا ولكي لا يستحوذ عليها من تكره له دولنا التفرد بقرارها.
ذلك ما ننتظره من أقلام الكتاب ليصلحوا وليعملوا خيرا لبلادهم وليسددوا خطى ولاة أمرهم، إنه الطريق النظيف السالم من الهمز واللمز والاتهام والتشكيك في نوايا الآخرين وعلاقاتهم، الا أن يكون الغرض من تلك الكتابات هو إثارة الهلع والحمية والطائفية والاستعداءات الداخلية، وتخويف أصحاب القرار واستثارتهم، ومع أني استبعد أن يصدر ذلك من أحبة نشترك معهم في الدين والوطن، إلا أني أقول:
اللهم اشهد انا نحب أوطاننا، ولا نعطي ولاءنا لغيرها، فأرضنا التي ولدنا وربينا على ترابها هي الأولى بنا، وقادتنا في البلاد هم بعد الله عز وجل من نتوجه اليهم لينصفونا ويُرضونا ويؤدوا أمانة الله فينا
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1459 - الأحد 03 سبتمبر 2006م الموافق 09 شعبان 1427هـ