بعد أكثر من ثلاث سنوات على غزو العراق عاد الصراع على فكرة «الدولة» للظهور مجدداً على سطح السياسة في بلاد الرافدين. البعض يريد «الدولة» والبعض الآخر لا يريدها. مسعود بارزاني أمر في إقليم شمال العراق برفع «العلم الكردي» بدلاً من علم الدولة مستفيداً من منصبه كرئيس لإقليم كردستان. فالإقليم بحسب وصفات تلك الفقرات الملتبسة في الدستور الفيدرالي العراقي الجديد يكتسب صلاحيات غامضة على حساب المركز. وبسبب ضياع الدستور الذي عمد الاحتلال إلى تلفيق مواده بين صلاحيات الدولة وسلطة الأقاليم لجأ بارزاني إلى افتعال مشكلة كان يمكن الاستغناء عنها في بلد يعاني من اضطرابات تهدد وحدته السياسية.
إقدام «رئيس» كردستان على اتخاذ هذه الخطوة الانقسامية في مدلولها الرمزي قد تكون نكاية بغريمه الكردي رئيس الدولة جلال طالباني. وربما أيضاً قد تكون محاولة لاختبار شعبيته ومدى جاهزية أهل الشمال على تقبل فكرة الانفصال وتأسيس «دولة» مستقلة عن العراق. إلا أن الخطوة لا يمكن عزلها عن تقرير «البنتاغون» الذي صدر في اليوم الذي انزل العلم العراقي عن مراكز الدولة في الشمال. فالتقرير خطير في إشاراته السياسية لأنه يلمح للمرة الأولى إلى احتمال تحول الصراع السياسي بين المسلحين في العراق إلى حرب طائفية بين الشيعة والسنة. وتعتبر هذه الإشارات أول تنبيه حقيقي يصدر عن أعلى جهاز عسكري في الولايات المتحدة والطرف المسئول عن إدارة الحرب وتنظيم الغزو.
الكلام عن حرب أهلية في بلاد الرافدين ليس جديداً. فهو صدر سابقاً في صيغ مخاوف وتنبيهات إلا أنه تحول إلى واقع معاش بعد جريمة الاعتداء على مرقد الامامين العسكريين في سامراء. فتلك الجريمة التي أسفرت عن نسف قبة المرقد فتحت الباب أمام تصفيات طائفية دموية أدت إلى نوع من الفرز المذهبي في المناطق وترحيل عائلات من هذا المكان إلى ذاك منعاً للاختلاط وخوفاً من دخول «غرباء» على خط الابرياء الذين ولدوا وعاشوا مصادفة في هذه المنطقة المختلطة أو تلك.
الكلام ليس جديداً ولكن اعتراف تقرير «البنتاغون» بوجود مشكلة من هذا النوع تعتبر إشارة واضحة من جهات أشرفت مباشرة على الاحتلال وخططت عن عمد على اشعال فتيل التوتر الأهلي ودفعه رويداً إلى حد التصادم المباشر. التقرير يعترف بوجود فتنة طائفية بعد تجاهل للمسألة ونفي لاحتمال وجودها. بل أن «البنتاغون» كانت تصر دائماً على ضرورة استمرار الاحتلال مبررة الموضوع بأنه من أجل وحدة العراقيين ومناعتهم الوطنية. أي أن «البنتاغون» ربطت الانسحاب بالحرب الأهلية والاحتلال بالوحدة الوطنية. ولذلك كان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد يحذر دائماً من خطورة أو خطأ دعوات الانسحاب الأميركي من العراق بذريعة أن الأمر في حال حصوله سيؤدي إلى انفجار الحرب الأهلية وبالتالي حتى لا تقع الحرب لابد أن يستمر الاحتلال.
منطق رامسفيلد الاعوج بدأت تتخلى عنه «البنتاغون» كما يبدو من تقريرها. فالتقرير لا يربط بين الانسحاب والحرب الأهلية وانما يرجح اندلاع الفتنة في ظل الاحتلال. ولكن «البنتاغون» كما هي عادتها تتحدث دائماً عن الاحتمالات والترجيحات والنتائج وتتجاهل الأسباب والدوافع والقوى المسئولة عن المسار العام الذي وصلت إليه بلاد الرافدين. فالتقرير يتحدث عن مخاوف ناسباً المشكلات إلى عوامل داخلية تتصل بظروف العراق وعلاقاته الموروثة ولكنه يرفع عن الاحتلال مسئولية حقن الناس وتأليب قواهم السياسية ضد بعضهم بعضاً.
إقدام بارزاني على انزال علم الدولة ورفع علم الإقليم لا يستبعد أن تكون حركته جاءت في ظل مناخ عام ومخاوف واقعية أشارت إليها «البنتاغون» في تقريرها الأخير. فالتصرف الفردي هو نتاج تراكم احقاد أسهم الاحتلال في استغلالها أو توليدها عند الحاجة. وهذه الخطوة يمكن وضعها في سياق عام قد تتبعها خطوات مماثلة في أكثر من مكان. فالتصريحات المتكررة بشأن الفيدراليات والاقاليم والجمهوريات الصغيرة التي صدرت تباعاً عن جهات مختلفة وفي ظروف متشابهة تشير إلى وجود نمو لمشاعر انفصالية في الجنوب والوسط والغرب والشمال. فالعراق بات جاهزاً للتقسيم وهذا ما عناه تقرير «البنتاغون» حين ذكر أن شروط الحروب الأهلية أصبحت متوافرة. وربما لهذه الأسباب أو الاحتمالات أخذت قوات الاحتلال تحزم امتعتها وتعيد تنظيم وجودها العسكري وتسليم بعض الثكنات والمواقع في مناطق تعتبرها حساسة أو غير قادرة على الدفاع عنها.
مسئولية الاحتلال
وضع العراق الآن وبعد أكثر من ثلاث سنوات على الاحتلال لم يعد جيداً. هذا ما أشار إليه التقرير. وما لم تذكره «البنتاغون» هو لماذا؟ ومن المسئول عن دفع الناس إلى هذا المستوى من عدم الثقه والكره المتبادل والحقد الذي وصل إلى حد قتل الجار أو طرده لمجرد أنه ينتمي إلى مذهب أو طائفة أخرى؟ الاحتلال يتحدث عن نتائج التجربة «النموذجية» التي وعد بها شعوب «الشرق الأوسط» ولكنه يتجاهل الأسباب التي رسمت معالم طريق الحرب الأهلية وأدت بأهل العراق إلى هذا النوع من الانكفاء الذاتي إلى داخل مناطقهم وطوائفهم ومذاهبهم. التهرب عن الاجابة لا يعفي الاحتلال من مسئوليته. فسياسة التقويض التي لجأ إليها الغزو الأميركي أسهمت في تغييب دولة العراق وتفريغ البلاد من مركز يجذب الأطراف إلى وحدة سياسية جامعة. ومثل هكذا سياسة مهندسة ومدروسة شجعت القوى المحلية والمناطقية على النمو ثم النهوض كهياكل بديلة عن حال سابقة. والهياكل البديلة ليست بالضرورة أن تكون أفضل لانها في النهاية لا تملك التصورات الجاهزة لإعادة تأسيس دولة جامعة لكل الأطراف والأطياف. فالشعب العراقي الذي عاش نحو ثلاثة عقود خائفاً ومطارداً من سلطة الفرد (الأسرة/ العشيرة) لم يتدرب على العلاقات العامة والتعامل السياسي مع الخصوم والقوى، ولم يكتسب تجربة سابقة في الحكم تعطيه فرصة لبناء واقع جديد يتشكل من رؤى قابلة للتطبيق.
هذا الخواء السياسي استغله الاحتلال وبنى عليه خطة مشروع يقضي في النهاية على فكرة العراق ويشطرها إلى اجزاء موزعة على اهواء محلية تقودها مجموعات طائشة أو غائبة عن الوعي. وما حصل ويحصل في العراق من اقتتال وقتل وتقتيل من دون حرمات يؤكد هذا الجهل العام أو المستوى المتدني من تجربة التعامل السياسي مع الآخر أو المختلف في مذهبه أو طائفته أو منطقته. وهذا الحرام الذي يسود بلاد الرافدين أسهم الاحتلال في تخليقه والتشجيع عليه ليكسب الحصانة الدبلوماسية ويشرّع الاحتلال باسم الخوف على وحدته واهله في حال اتخذ خطوة الانسحاب.
المشاهد السياسية في العراق الآن ليست بعيدة جداً عن المشروع المبرمج الذي خططت له «البنتاغون». فالمشاهد البائسة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب والوسط كلها تدل على عدم قدرة الأطراف على توحيد المناطق أو التوافق على حد أدنى من التنازلات لمنع التشرذم الذي أخذ يطل برأسه من الأقاليم.
الصراع على فكرة «الدولة» عاد للظهور مجدداً بين الأطراف حتى بين تلك الأطياف المحسوبة تقليدياً في جانب واحد. فكل فريق يشد الخيوط إلى جانبه. فالحكومة تريد «الدولة» والميليشيات تريدها وبارزاني يريدها. والتنافس على اشده بين من يملك الصلاحيات الدستورية وبين من يتمتع بسلطة القرار في المنطقة أو الإقليم أو المحافظة أو حتى الاحياء. وبين هذا وذاك تبدو الأمور متشابكة وعجزت عن حلها تلك اللقاءات الموسعة في بغداد التي ضمت أخيراً أكثر من 600 رئيس عشيرة في العراق.
رفع العلم الكردي في شمال بلاد الرافدين قد يكون نكاية بالرئيس طالباني ولكنه ليس مصادفة. فالمصادفة هي صدور تقرير «البنتاغون» الذي لا يستبعد اندفاع العراق إلى حروب أهلية (طائفية). والنكاية هي التذكير بأن سلطة القرار للإقليم وليست للدولة التي تملك الصلاحيات ولا تتمتع بتلك القوة المطلوبة لبسط النفوذ في المناطق والمحافظات. وفي هذا المعنى يمكن أن يكون بارزاني أراد أن يوجه رسالة لغريمه طالباني بأن «رئيس» إقليم فاعل على الأرض أهم واقوى من «رئيس» دولة لا وجود لها إلا في الرموز الرسمية. وبما أن العلم من رموز تلك الدولة المفقودة فلا بأس من إعادة تذكير رئيس الوطن بأن رئيس العشيرة هو الأعلى في تراتب هرم السلطة الجديدة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1459 - الأحد 03 سبتمبر 2006م الموافق 09 شعبان 1427هـ