تم في المقال السابق (مناقشة قضية إشراك القطاع الخاص في قطاع المياه) استعراض وجهات النظر المؤيدة والمعارضة لخصخصة قطاع المياه عموماً، وخلص المقال إلى أنه وبسبب خواص هذا القطاع وخصوصاً فيما يتعلق بتزويد مياه الشرب والصرف الصحي فإن نجاح هذه العملية يتطلب وجود إطار قانوني وتنظيمي واضح وشفاف، والاهم من ذلك وضع سياسة مائية وطنية واضحة، يتم فيها تحديد دور القطاع الخاص بشكل واضح وصريح، وإنشاء جهاز/ هيئة تنظيمية مستقلة قبل البدء في عملية الخصخصة تقوم بدراسة جميع الخيارات المتاحة لمشاركة القطاع الخاص في مجالات المياه المختلفة، وأن تكون أهداف الخصخصة واضحة ومحددة، وألا تكون هدفاً بحد ذاته أو لإعفاء الحكومات من مسئوليتها في إدارة الموارد المائية، وإنما وسيلة لتحقيق زيادة الكفاءة الاقتصادية وتحسين جودة الخدمة واستدامتها مع الأخذ في الاعتبار حماية الشرائح الفقيرة وذات الدخل المحدود في المجتمع.
وفي دول مجلس التعاون الخليجي توجد حالياً سياسات واضحة وتوجه عام نحو تحفيز القطاع الخاص وجذب استثماراته للمساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني والتحول العام لدور الدولة من تزويد الخدمة إلى التنظيم والإشراف والرقابة. ولقد بدأ هذا التوجه في معظم دول المجلس بعد حرب الخليج الثانية التي استنزفت موازنات هذه الدول في التسلح وأوقعت الكثير منها تحت طائلة وضغوطات عجوزات الموازنات المالية، بالإضافة إلى وصول هذه الدول إلى قناعة مفادها عدم إمكان مواصلة النهج الاقتصادي المتبع آنذاك من حيث هيمنة دور الدولة على الأنشطة الاقتصادية والتوظيف. وبدأت الكثير من دول المجلس مراجعة الأداء الاقتصادي والقيام بإصلاحات اقتصادية وإعادة هيكلة الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل لها لتخفيف تعرضها لتذبذب أسعار النفط، واتخذت هذه الإصلاحات أشكالاً عدة من ضمنها تقليص دور القطاع العام، الذي ثبت سوء أدائه، لزيادة الكفاءة ومستوى الخدمة ورفع مستوى المنافسة وجذب استثمارات القطاع الخاص الخارجي والمحلي وزيادة مداخيل هذه الدول وتقليل الإعانات.
وفي ظل هذه المتغيرات والتوجهات السياسية والاقتصادية العامة لدول المجلس اتجهت الأنظار إلى قطاع الماء والكهرباء كأحد القطاعات الذي يحتوي على الكثير من الفرص لإشراك القطاع الخاص في تحمل مسئوليته، وذلك بسبب النمو المتسارع في الطلب على خدمات المياه والكهرباء الناتج عن النمو السكاني والتوسع الحضري المطردين، وما نتج عنه من زيادة الأعباء المالية الثقيلة على كاهل الموازنات العامة لهذه الدول بسبب الحاجة إلى ضخ استثمارات هائلة لبناء محطات التحلية والمعالجة والبنى التحتية للقطاع بالإضافة إلى الدعم الكبير المقدم لهذا القطاع، أضف إلى ذلك ضعف أداء وتدني كفاءة القطاع العام، كغيره من القطاعات الحكومية في دول المجلس، في تشغيل وصيانة وإدارة مرافق وخدمات المياه لأسباب عدة منها ضعف الخبرات الفنية والإدارية وسيادة المناهج القطاعية والترهل الحكومي والبطالة المقنعة واستشراء الفساد الإداري والمالي، ما أدى إلى تدني مستوى الخدمة وارتفاع الكلف وزيادة الإعانات والدعم الحكومي.
وفي ضوء ذلك، بدأت دول المجلس في دراسة الخيارات المتاحة لخصخصة قطاع المياه والكهرباء وإضفاء «الصبغة التجارية» على هذا القطاع للارتقاء بأدائه، ففي دولة قطر تم تحويل الوزارة المسئولة عن المياه والكهرباء إلى «مؤسسة الكهرباء والماء» لتكون مسئولة عن إدارة وتخطيط وتنظيم ومراقبة هذا القطاع في الدولة، وتم تخصيص عملية إنتاج الماء والكهرباء لثلاث شركات خاصة هي «شركة الكهرباء والماء القطرية» وهي شركة عامة مساهمة أنشأتها الحكومة وطرحت أسهمها للمواطنين في البورصة، وشركتان خاصتان ذواتي ملكية مشتركة بين رأس المال الوطني وشركات متعددة الجنسية. ويدرس المسئولون القطريون حالياً التوسع نحو خصخصة النقل والتوزيع وتحصيل الرسوم. وفي عمان تستهدف السياسة الحكومية الطويلة المدى لقطاع المياه في المناطق الحضرية الخصخصة الجزئية أو الكلية لإنتاج المياه المحلاة ومعالجة المياه، وتعمل مؤسسة المياه والصرف الصحي العمانية تحت قانون ونظام الشركات استعداداً لخصخصتها في النهاية، وهناك مشروع مقترح لتحلية المياه (بركة) من المتوقع أن يتم تمليكه للقطاع الخاص. وفي دولة الكويت تم أخيراً تنفيذ مشروع لمعالجة المياه المعالجة ثلاثياً إلى مستوى متقدم مع القطاع الخاص تحت نظام البناء والتشغيل ونقل الملكية للحكومة بعد 25 سنة.
أما في المملكة العربية السعودية، وبعد إصلاح الوضع المؤسسي لقطاع المياه بدمج الجهات المسئولة عن المياه تحت مظلة وزارة واحدة في العام ،2002 تم وضع رؤية الوزارة في مجالي المياه المنزلية والصرف الصحي تنص على «إنشاء مرافق وخدمات مياه ذات مستوى عالمي»، وبعد تقييم وتدقيق وضع أداء القطاع وخدمات المستهلكين، تم وضع «خريطة طريق» لإشراك القطاع الخاص من خلال خطة استراتيجية تدريجية تشمل في بدايتها مرحلة انتقالية مدتها 5 سنوات يتم فيها إنشاء شركة وطنية للمياه وتوقيع عقود إدارة وتشغيل وصيانة مع كبرى الشركات العالمية لتحسين مستوى أداء القطاع في كبرى مدن المملكة (الرياض وجدة والدمام والمدينة المنورة وتمثل نحو 50 في المئة من استهلاك المياه البلدية)، وتشمل إدارة الطلب والتشغيل والصيانة والتسربات وتركيب العدادات وخدمات المستهلكين. وتتم في هذه المرحلة إعادة النظر في تعرفة المياه والتحضير لتحويل الأصول والموظفين من الوزارة لشركات القطاع الخاص وتجهيز المجتمع السعودي وتغيير عاداته تحت هذه الظروف الجديدة، وتحسين وضع القطاع ليكون أكثر جاذبية للقطاع الخاص. وبموازاة ذلك تم إعداد وتجهيز العقود الأكثر تعقيداً لخصخصة معظم مرافق المياه في هذه المدن الأربع، ومن المتوقع أن تتم أول عملية تخصيص للقطاع في مدينة الرياض في نهاية الربع الأول من العام .2007
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحديداً في إمارة أبوظبي، أنشئت لجنة خاصة في العام 1996 للنظر في خيارات إعادة هيكلة وخصخصة قطاع المياه والكهرباء ضمن خمسة أهداف رئيسية، هي: ضمان استدامة تزويد المياه والكهرباء، وزيادة الكفاءة الاقتصادية ومستوى الخدمة، وتشجيع استثمارات القطاع الخاص ومشاركته، وخلق فرص للتوظيف والتدريب للمواطنين، وتعظيم العائدات الحكومية من بيع الأصول. وبناء على توصيات اللجنة صدر قانون في العام 1998 (رقم 2/ 1998) بإنشاء «هيئة مياه وكهرباء أبوظبي» لتكون مسئولة عن سياسات الحكومة لقطاع الماء والكهرباء بما فيها مبادرات الخصخصة، وإنشاء «مكتب التنظيم والإشراف» يعمل كهيئة مستقلة ويكون مسئولاً عن تنظيم ومراجعة أعمال وأداء هذا القطاع، كما نص القانون على أن تكون مسئولية التخطيط وتوقيع عقود زيادة طاقة الإنتاج المستقبلية من مسئولية «شركة أبوظبي للماء والكهرباء» على أن تكون هي المشتري الوحيد للمياه المنتجة من قبل القطاع الخاص، وكذلك الجهة التي تقوم بتحديد الأسعار بموافقة الحكومة. ويرمي هذا الترتيب المؤسسي إلى فصل أنشطة إمدادات المياه الثلاثة، وهي الإنتاج والنقل والتوزيع، وتوزيعها على شركات تابعة لهيئة واحدة لزيادة الشفافية والمساءلة في تحديد كلف هذه العمليات وخفض الكلف في المراحل المختلفة.
ومنذ العام 1998 تحقق تقدم كبير في مجال الخصخصة الجزئية لإنتاج المياه المحلاة في الإمارة، وهناك توجه نحو تعميم ذلك على قطاع الصرف الصحي، فقد وضعت الإمارة خطة طموحة لإنشاء 11 شركة خاصة، منها أربع شركات مستقلة لإنتاج الكهرباء والماء تمتلك هيئة مياه وكهرباء أبوظبي 60 في المئة من أسهمها ويمتلك مستثمرون دوليون تابعون للقطاع الخاص الـ 40 في المئة الباقية، وسبع شركات فرعية مملوكة للهيئة لتوزيع المياه والكهرباء وأداء الوظائف الأخرى ذات الصلة، ويشرف عليها مكتب التنظيم والإشراف. وأدى هذا الترتيب المؤسسي إلى تحقيق قدر كبير من الشفافية في مراقبة الكلف وفي تحسين مساءلة الشركات العاملة في مجال تقديم خدمات المياه، كما تشير التقارير والدراسات إلى انخفاض سعر كلفة المياه في أول مشروعات الخصخصة (مشروع الطويلة أ2) من 18 إلى 11 درهم/ألف غالون، والكهرباء من 20 إلى 9 فلس/كيلووات، وأدى رفع كفاءة القطاع إلى خفض التعرفة بنحو 40 في المئة، ما يصب في النهاية في مصلحة المستهلك.
ومن أهم الدروس المستفادة من تجارب دول المجلس في مجال خصخصة قطاع المياه هو أن التخطيط لعملية الخصخصة يحتاج إلى وضع رؤى وأهداف واضحة ومحددة ودراسة جميع الخيارات والنماذج المتاحة التي تتناسب وطبيعة المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبأن إشراك القطاع الخاص في هذا القطاع الحيوي يتطلب من الحكومة دوراً إشرافياً ورقابياً كبيراً لضمان تحقيق الأداء ومستوى خدمة المستهلكين المطلوبين، وألا تعتبر الخصخصة وسيلة لتحاشي الدور والمسئولية الحكومية في تنظيم الموارد المائية وإدارتها. وأنه لرفع مستوى كفاءة قطاع المياه وتحسين مستوى الخدمة للمستهلكين فإنه من الضروري إضفاء الصبغة التجارية لأنشطة القطاع من خلال إنشاء شركات منفصلة عن الوزارات التي تتبعها تعمل تحت قوانين وأنظمة الشركات التجارية، كما تبين تجربة امارة أبوظبي المتقدمة إلى أن تقسيم أنشطة ووظائف قطاع المياه إلى حزم مستقلة من شأنه أن يزيد المنافسة بين الشركات، ويقلل مخاطر الاحتكار وفي الوقت نفسه يقلل من مخاطر القطاع الخاص للدخول في هذه العملية. أما بالنسبة إلى هاجس الأمن الوطني، فينظر إلى إشراك القطاع الخاص الوطني من خلال إنشاء شركات مساهمة يمتلك أسهمها المواطنون/المستهلكون من أهم الحلول المطروحة لتقليل هذا الهاجس ولزيادة المنفعة للمواطنين.
وفي المقال القادم سيتم التطرق إلى الوضع الحالي لخصخصة قطاع المياه في مملكة البحرين
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1458 - السبت 02 سبتمبر 2006م الموافق 08 شعبان 1427هـ