أمس بدأ في بيروت الاعتصام النيابي اللبناني ضد الحصار الجوي والبحري الذي تضربه «اسرائيل» على المطارات والموانئ بتغطية دولية من الولايات المتحدة. الاعتصام النيابي جاء بناء على دعوة من رئيس المجلس نبيه بري وردت في خطاب ألقاه في مدينة صور في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر.
الاحتجاج النيابي جاء بعد 19 يوماً على وقف اطلاق النار وانهاء العمليات الحربية التي نص عليها القرار 1701. فالحصار يعتبر مخالفة دولية ومن الأعمال العدوانية على لبنان لأنه يخضع البلاد إلى نوع من الإذلال اليومي ويمنع عودة الحياة الطبيعية للناس ويؤخر ورش البناء وإعادة الإعمار ووصول المساعدات والاغاثة.
الدعوة إلى الاعتصام في قاعات المجلس النيابي اللبناني جاءت أيضاً في توقيتها الصحيح لأنها تكشف مدى النفاق الذي تمارسه واشنطن. فهي قبل الحرب كانت تتغزل بالعاصمة بيروت وتمتدح دورها الإقليمي وموقعها الخاص في «الشرق الأوسط» وشرق المتوسط ولكنها خلال الحرب أعطت الضوء الأخضر لحكومة تل أبيب لقصفها وتدميرها وتحويل لبنان إلى أشلاء وبنى محطمة. وبعد انتهاء أعمال الحرب أعلنت الإدارة الأميركية معونات مالية لكنها لم تبذل جهدها لرفع الحصار على رغم كل الدعوات والاتصالات. فواشنطن كانت موافقة على سياسة التحطيم وحرب الدمار الشامل والآن تبدو متضامنة مع تل أبيب في مواصلة الحصار والضغط على لبنان لاضعافه ودفعه داخلياً نحو التصادم الأهلي تحت مسميات وشعارات مختلفة.
الاعتصام النيابي ضد الحصار الإسرائيلي يعتبر ضمناً وبطريقة غير مباشرة رسالة رسمية لبنانية موجهة إلى الولايات المتحدة ودورها الخاص في إدارة الحرب وتوجيه مدافعها وقنابلها وصواريخها. والرسالة التي أراد توجيهها نواب البرلمان هي محاولة الكشف عن الوجه الحقيقي للولايات المتحدة ودور إدارتها في تسيير العلاقات وإعادة توظيفها لمصلحة حليفها الاستراتيجي في المنطقة.
هذا هو العنوان العام الذي يمكن وضعه لفهم أبعاد «اضراب» النواب في البرلمان. إلا أن هناك مجموعة عناوين صغيرة تقع تحت العنوان العريض. فالاعتصام أيضاً جاء لتذكير اللبنانيين بأن الحرب عُلقت ولم تتوقف والحصار هو عمل حربي لأنه يضغط على حياة الناس المدنية ويعطل عليها إمكانات التحرك الحر والانتقال والتنقل والتواصل مع الخارج. كذلك جاء الاعتصام ليعيد تنظيم العلاقات الداخلية ويقوم بترتيبها وفق أولويات تضع العدوان الإسرائيلي على رأس جدول الأعمال. وبعد ذلك تأتي تداعيات الحرب وما تستتبعه من ضرورة للإسراع في الاغاثة وتوصيل المساعدات للبدء في ورشة إعادة الإعمار.
دعوة بري للاعتصام كانت «ضربة معلم» كما يقال وجاءت في وقت دقيق لأنها ضمناً قطعت الطريق على تحركات كانت تضغط باتجاه زعزعة الاستقرار السياسي الذي ظهر بعد توقف العدوان. كذلك جاءت للرد على محاولات جرجرة البلاد نحو الاصطدام الأهلي بذريعة تحصيل «حقوق المسيحيين» أو تحسين التمثيل النسبي والحصص الطائفية في الهيئات الرسمية. وفي هذا المعنى كشف الاعتصام النيابي خطورة الدور الأميركي في تغطية الحصار الإسرائيلي وأعاد تذكير اللبنانيين بأن العدو لايزال يخطط لتمرير مشروعه التقويضي بعد عدوان استمر أكثر من 33 يوماً.
أولويات لبنانية
أمام لبنان الآن (المحطم والمهشم) ودولته (المقوضة والمشلولة) مهمات كثيرة تترتب عليها ضرورة الانتباه إلى أهمية جدولة أعمال البلاد وفق درجات تبدأ بإزالة آثار العدوان، وكشف الدور الأميركي في تغطية الحرب وإدارتها وتمويلها ثم المماطلة في عدم رفع الحصار الجوي والبحري. وهذه الدرجات تشترط جملة أمور لنجاحها وفي طليعتها العمل على عدم تعديل لغة الخطاب السياسي وتحويله إلى أدوات ضغط داخلية تحت مسميات مختلفة. فوقف إطلاق النار لا يعني أن أطماع «إسرائيل» توقفت وأن تل أبيب لم تعد تخطط لتمرير مشروعها التدميري من خلال استثمار القرار 1701 وتوظيفه داخلياً لزعزعة التوازن السياسي ودفع العلاقات الأهلية نحو التأزم أو التصادم.
الحرب إذاً لم تنته ولبنان الآن يمر بفترة نقاهة تسيطر عليها هدنة قلقة قد تسقط في أية لحظة في حال قررت واشنطن استكمال مشروعها التقويضي في المنطقة. وبهذا المعنى تصبح مسألة التركيز على رفع الحصار نقطة مركزية للضغط على واشنطن وكشف أوراقها ودورها وموقعها الخاص في تنظيم العدوان الأخير على لبنان.
استمرار الحصار يعني استمرار العدوان. وهذا الموضوع يجب ألا يغيب عن الدولة أو المقاومة. وبالتالي فإن الجهود لابد أن يتم تركيزها على هذه النقطة لأنها تشكل المدخل لتصحيح الكثير من الأوضاع وتفتح الباب أمام احتمال عودة الحياة الطبيعية إلى بلد فرض عليه أن يتحمل الاعباء في وقت يحتاج إلى مساعدات لترميم علاقاته الداخلية تمهيداً لاستعادة موقعه ودوره.
إعادة الإعمار وعودة النازحين واستقرارهم في ديارهم تعتبر نقطة مهمة وهي مرتبطة أصلاً بموضوع رفع الحصار. وفي حال لم تسارع الأمم المتحدة إلى الضغط لتحقيق هذا المطلب الإنساني والحيوي فمعنى ذلك أن الحرب السياسية على لبنان مستمرة من خلال منافذه وممراته البحرية والجوية. كذلك يعني أن الدول الكبرى - وتلك التي اجتمعت في العاصمة السويدية - لاتزال في موقع غير محايد ونزيه وبالتالي فهي مصرة على منع وصول المساعدات وتعطيل الحياة العامة للناس... الأمر الذي سيشكل لاحقاً مجموعة بؤر سياسية ستثير القلق والتوتر وتقوض العلاقات الأهلية. وفي حال حصل هذا الأمر السلبي سيدخل لبنان في شبكة من التناقضات الطائفية والمذهبية والمناطقية تقوم على مراكز قوى تتجاذب السلطة وهذا سيعطل إمكانات إعادة الإعمار وعودة النازحين وبقاء الحطام على الأرض إلى أجل غير مسمى.
الأولوية اللبنانية الآن هي العمل من أجل فك الحصار الإسرائيلي (الأميركي) من خلال استخدام كل الأدوات المتوافرة للضغط دولياً لرفع العقاب الجماعي الذي تمارسه حكومة تل أبيب مستفيدة من القرار الدولي 1701.
أما الابتعاد عن هذه الأولوية والبحث عن أولويات أخرى أو اختلاق مشكلات يمكن الاستغناء عنها أو تجنبها سيسهم بطريقة أو أخرى في تعريض العلاقات الأهلية إلى امتحان عسير في لحظة تشهد فيها الساحة سلسلة توترات لا تحتاج إلى مزيد من الاحتقان حتى تنفجر داخلياً.
دعوة رئيس مجلس النواب إلى الاعتصام المفتوح حتى يرفع الحصار عن لبنان جاءت في توقيت صائب لأنها صححت الاتجاهات وحددت للبوصلة نقطة الجاذبية ومكمن الخطر على البلاد دولة ومقاومة. فالحرب لاتزال قائمة حتى الآن، وتوقف المدفعية عن إطلاق قذائفها لا يعني أن الخطر الإسرائيلي انتهى وان أميركا أوقفت مشروعها العدواني.
لبنان الآن يمر في هدنة قلقة. وهذا القلق مصادره كثيرة ومتنوعة ولابد من تركيز الانتباه على مخاطر تداعيات الحرب وملحقاتها، وما يترتب عليه استمرار الحصار من محاولات لزعزعة الاستقرار السياسي وحقن الداخل باستقطابات أهلية تثير النقمة على الدولة والمقاومة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1458 - السبت 02 سبتمبر 2006م الموافق 08 شعبان 1427هـ