لاتزال أميركا تخوض حربها الإسرائيلية ضد لبنان، فقد منحت الكيان الصهيوني فرصة زمنية لكي يمتد في حصاره البحري والجوي للمرفأ والمطار، وللاستمرار في احتلاله لبعض المواقع في جنوب لبنان، في خرق فاضح للقرار 1701 الذي لم ينص على أي شيء من ذلك، لأن المطلوب أميركياً أن تظهر «إسرائيل» بمظهر القوة بعد أن سقطت في موقع الهزيمة العسكرية تحت ضربات المقاومة، ما يعني أن هذا الحصار لن يرتفع إلا بضغط أميركي.
لكن المسألة هي أن أميركا ليست وسيطاً في هذا الأمر، بل هي شريك للعدو في كل هذه الحرب التي أرادت واشنطن من خلالها أن تحول لبنان إلى موقع لنفوذها السياسي، ومركز لمشروعها في تأسيس الشرق الأوسط الجديد، لكن الصمود اللبناني بمقاومته وشعبه استطاع أن يمنعها من ذلك، لأن هذا الشعب أدرك من خلال وعيه أن أميركا عدو للعرب والمسلمين تماماً كما هي «إسرائيل»، من خلال هذا التحالف الأميركي الإسرائيلي في العدوان التاريخي على لبنان والعرب منذ الـ 48، والذي لم تخض فيه «إسرائيل» أي حرب ضدنا إلا بالتنسيق والتخطيط مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، وبغطاء سياسي وأمني وعسكري منها.
ولهذا كله، لم يستطع الأمين العام للأمم المتحدة أن يحرك مسألة رفع الحصار عن لبنان في زيارته للبنان وفلسطين المحتلة، لأن «إسرائيل» ترفض ذلك من خلال تشجيع ودعم وتغطية الإدارة الأميركية للاستمرار في هذا الحصار، وهذا ما ينبغي للشعب اللبناني أن يعرفه، كما ينبغي لكل فريق السفارة الأميركية في لبنان أن يتعرف عليه، ولا ندري فربما كان هذا الحصار يتم بإشراف بعض أفراد هذا الفريق أو موافقته، للوصول إلى بعض أهدافه المحلية ضد المقاومة التي لايزال يحملها مسئولية هذه الحرب ومفاعيلها السلبية المأسوية، تماماً كما لو كانت أميركا الإسرائيلية بريئة من ذلك، ولعل مما يوحي بقوة الضغط الأميركي الدولي في المسألة اللبنانية أن الاتحاد الأوروبي ومعه أكثر دول العالم لايزال يطالب برفع الحصار الإسرائيلي عن لبنان، ولكن أميركا ترفض ذلك لأنها لا تحترم المجتمع الدولي الذي تتاجر باسمه.
ولاتزال أميركا تخوض حربها الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض لعملية إبادة منظمة من خلال عمليات القتل اليومي لأطفاله ونسائه وشيوخه بالأسلحة الأميركية المتطورة، كما يواجه تدمير بنيته التحتية بحجة مواجهة فصائله المجاهدة التي تعتبرها أميركا «مجموعة من الإرهابيين»، لأن التعريف الأميركي للإرهاب يشمل كل موقع أو فصيل أو مجموعة لا تتناغم مع سياستها وتسعى إلى تحرير الأرض من الاحتلال، ولهذا عطلت في خطتها السياسية المفاوضات بين حكومة العدو والشعب الفلسطيني، حتى على أقل قدر ممكن من حقوقه الشرعية، ومنعت اللجنة الرباعية الدولية من تنفيذ «خريطة الطريق»، لأنها ترى أن دور هذه اللجنة هو البقاء في الوقت الضائع لتستكمل «إسرائيل» خطتها في السيطرة الجغرافية على فلسطين، من خلال المستوطنات والجدار العنصري الفاصل وتهويد القدس، بموافقة رئيس أميركا الذي أعلن رفضه عودة اللاجئين إلى ديارهم في فلسطين على رغم قرار مجلس الأمن 194 الذي كان قراراً أميركيا، لكن ما يصح للعدو في رفضه لقرارات مجلس الأمن لا يصح لغيره عند أميركا، لأن الضغط الأميركي يجعل «إسرائيل» فوق القانون الدولي.
إن أميركا تتحدث عن صواريخ المقاومة ضد العدو في فلسطين، لكنها لا تتحدث عن الأسلحة الأميركية التي تجتاح فلسطين كلها، وتحاصر غزة والضفة الغربية والقدس بغطاء أميركي! ومن اللافت أننا لا نجد للأنظمة العربية أي دور ضاغط في منع العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، حتى من الدول التي صالحت «إسرائيل»، بل إن بعضها قد رفض الاعتراف بالحكومة الفلسطينية التي شكلتها حركة حماس، التي انتخبت من الشعب الفلسطيني.
ولهذا، فإن على الفلسطينيين أن يقتنعوا بالحقيقة السياسية الأمنية التي تؤكد أن أميركا لن تمنح الشعب الفلسطيني أي حل لمشكلته إلا الحل الإسرائيلي الذي لا يسمح إلا بالدولة الفلسطينية المسخ والمقطعة الأوصال غير القابلة للحياة، وإن عليهم أن يتابعوا جهادهم للتحرير ويستفيدوا من تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان التي استطاعت أن تكسر هيبة «إسرائيل» وتسقط عنفوانها، وتنزل بها أكبر هزيمة في تاريخها، لأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
ولاتزال الحرب الأميركية ضد الشعب العراقي في احتلالها للعراق، الذي حول هذا البلد إلى بلد يغرق بالفوضى الأمنية من خلال جيش الاحتلال الأميركي والبريطاني الذي يقوم بين وقت وآخر بالمجازر المتنوعة ضد المدنيين العراقيين في أكثر من مدينة، تحت تأثير بعض المبررات التي لا تخضع لأي منطق إنساني.
ولاتزال الفوضى التي أنتجها الاحتلال تثير الحساسيات لدى أولئك الذين لا يحترمون الإنسان في إنسانيته، من التكفيريين الذين يقتلون المدنيين الأبرياء تحت تأثير حال التكفير التي أغرقت العراق في بحر من الدماء، حتى أنها لا تستثني طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً، فتحولوا من قتال المحتل إلى قتال المسلمين من العراقيين، في الوقت الذي ترتكب فيه كل هذه المآسي والمجازر تحت سمع الاحتلال وبصره، من دون أن يمنع أي شيء من ذلك لأن مصلحته تقتضي بقاء هذه الفوضى كمبرر لبقاء احتلاله، وذلك في سبيل تنفيذ خطته في نهب ثروات العراق، وتحريك مواقعه للسيطرة على دول الجوار لتحقيق استراتيجيته السياسية في خدمة مصالحه الاستكبارية.
وإننا، في هذا الجو، نريد للشعب العراقي أن يرتفع إلى مستوى الوعي الإسلامي السياسي، وأن يلتقي على قاعدة الوحدة الإسلامية والوطنية، وأن ينطلق لمواجهة الاحتلال في مقاومة وطنية تواجه المحتل من موقع واحد، بعيداً عن أية حال تبتعد عن حركة الحرية والاستقلال، لأن الاحتلال شر كله ولا شر أعظم منه في الوطن كله.
وليس بعيداً من ذلك، لاتزال الولايات المتحدة الأميركية المتحالفة مع «إسرائيل» تعتبر المشروع الإيراني النووي السلمي خطراً عليها، وهي لاتزال تثير الحرب ضد إيران في هذا المشروع باتهامها بأنها تخطط لصنع السلاح النووي، على رغم إعلانها فتوى بتحريم الأسلحة النووية المدمرة للإنسان، لكن أميركا ومعها دول الاتحاد الأوروبي الخاضع لها لا تريد لأية دولة إسلامية أن تملك الخبرة العلمية المتقدمة، ولاسيما النووية، التي تمنحها الفرصة للاستفادة من ذلك في مشروعاتها الاقتصادية.
وفي هذا المجال، فإننا نلاحظ أن هناك تحضيراً لاستخدام الأمم المتحدة كموقع من مواقع الحرب الاقتصادية والسياسية ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، ومنعها من الحصول على حقها الطبيعي الذي ضمنته المواثيق الدولية في مسألة الطاقة النووية السلمية.
إننا أمام هذا الواقع نحذر من أن تكون آخر حفلات الجنون الأميركي هي حفلة تسقط فيها الأمم المتحدة سقوطاً نهائياً بعدما جرى احتلالها من قبل أميركا، وهذا ما لاحظناه في حديث المندوب الأميركي الذي تحدث كجنرال يسقط قراراته على جنوده، عندما قال: «إن الأمم المتحدة لن تتهاون مع إيران بعد 31 آب»، تماماً كما لو كانت أميركا تملك الأمم المتحدة، أو أن المندوب الأميركي هو أمينها العام أو الناطق الرسمي باسمها، بعد أن جمد دور الأمين العام للأمم المتحدة عن كل فعالية في هذا المجلس، بل تحول إلى شاهد زور.
إننا في الوقت الذي نتابع فيه تصريحات المسئولين في الإدارة الأميركية التي ربما تخطط لإيجاد الظروف السياسية والعسكرية لحرب استباقية جديدة ضد إيران، نتصور أن هذا الحلم الأميركي لن تستطيع الولايات المتحدة الأميركية أن تبلغه، لأنه قد يحرق المنطقة كلها ويحولها إلى جحيم يؤدي إلى خطر على مقدرات العالم، وعلى ثروة العالم النفطية، وستنطلق الشعوب العربية والإسلامية لتعبر عن الموقف الحقيقي للعالم العربي والإسلامي تجاه السياسة الأميركية، تماماً كما عبرت عن عدائها لهذه السياسة التي اعطت «إسرائيل» كل دعم وغطاء في الحرب الوحشية التي شنتها ضد لبنان. إن أميركا تحولت إلى شيطان أعمى يعيش هستيريا القوة التي تسقط كل عنفوانه مهما استعرض عضلاته، وعلى الشعوب أن تعرف كيف تواجه جبروته في عملية تطويق وإسقاط.
وأخيراً، فإننا نستذكر في هذا اليوم قائداً إسلامياً كبيراً استطاع أن يحقق الكثير لشعبه في لبنان وللإسلام والمسلمين، إنه العلامة الكبير المجاهد السيدموسى الصدر الذي أطلق المقاومة ضد «إسرائيل»، وأعلن أن القدس لن يتحرر إلا من خلال ضربات المؤمنين، وأن السلاح زينة الرجال ليكون سلاحاً مقاوماً مسئولاً من أجل الحرية والعزة والكرامة. إننا نتذكره بكل تقدير واحترام، ونطالب بكشف الغموض عن قضيته وإعلان النتائج أمام الأمة كلها، لأنه كان للأمة كلها، وللإنسان كله، وللإسلام كله.
وختاماً، إننا نريد للمرحلة التي نعيشها، والمتوجة بانتصار المجاهدين، أن تتحرك في خط الانتصار السياسي والروحي والثقافي، وأن تطرد الذين يخططون في اتجاه الهزيمة لمصلحة العدو من لبنان كله، ومن العرب كلهم، ومن المسلمين كلهم
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1457 - الجمعة 01 سبتمبر 2006م الموافق 07 شعبان 1427هـ