أنقل الرمل من المصنع إلى مواقع البناء كل يوم عدة مرات في شاحنة تئن من العمل ولا يسمع أنينها سواي. اتفهم ضجر الشاحنة لأنها الوحيدة التي ارتضت أن تصاحبني وتشهد بعض فصول معاناتي. علاقتي بها ليست عابرة، إنها علاقة الشمس مع السماء. أرأف بها أحياناً وأتمنى لو استطيع أن اريحها ليرتاح قلبي من تعب الشعور بألمها. احسست بها بعد أن شعرت بإحساسها بي. في شدة حرارة الظهيرة، والعرق يتصبب حتى من قلبي، لا أجد من يواسيني حمل التعب سواها. صبورة وعلمتني الصبر، قنوعة وعلمتني القناعة. يستغرب الناس من علاقتي بها لعدم علمهم بما تؤديه لي، إنها صاحبتي كل يوم.
الرمل الذي أنقله كل يوم مرات، يبني بنايات ومدارس وبيوتاً وكل بناء يعلو على أرض الوطن، كم اتمنى لو يستطيع هذا الرمل أن يبنيني. كنت ألهو به في الصغر، كنت أبني من الرمل منزلاً صغيراً عند البحر وأتمنى حينها لو كنت قزماً لأعيش فيه، أفكار الطفولة، كنت أبني من الرمل شيئاً وأتمنى لو يقدر أن يبني مني شيئاً هذا اليوم. شاحنتي الهرمة تنقل الرمل المولود حديثاً من رحم المصنع لينمو أبنية وعمراناً، تذكرني هذه الشاحنة بأمي ويذكرني الرمل بي، لم أكن اكترث لتعب أمي حين كانت تنقلني من مرحلة الطفولة لمرحلة ما بعدها. أشياء كثيرة تذكرني بأمي، ولكن بعد فوات الأوان.
أقود شاحنتي وتقودني الذكريات، كلما شعرت بالإرهاق والتعب صرت ابحث حثيثاً عن السبب، وارشيفي الذاكرة. أوقفتني إشارة حمراء، إنها تذكرني بوالدي الذي حرمني من أشياء كثيرة كان يستمتع بها أصدقائي. لم استوعب مطلقاً فكرة أن كل محظوراته كانت من أجلي، لو كانت كذلك لما قدت هذه الشاحنة اليوم. حرمني من اللعب مع أطفال القرية لأذاكر دروسي وأتفوق عليهم في المدرسة، كان يغضب حين أعصيه وأخرج خلسة من المنزل للعب. رغبتي في الخروج كانت لا تسمح لي مطلقاً بالإمساك بأي كتاب. كرهت المذاكرة ليس لأني لا أحبها ولكن لأني حرمت من شيء أحبه بسببها. تعودت على كره الكتاب، كره المدرسة، كره الدراسة، سامحك الله يا والدي.
انطلقت بالشاحنة حين أضاء اللون الأخضر، إنه يذكرني بأمي التي لم تحرمني من شيء على عكس أبي وخصوصاً حين يغيب عن البيت مسافراً. كلما شدد والدي قفل الأبواب في حياتي كلما أفسحت فتح الأبواب حال غيابه. عكسه تماماً، محرمات والدي نفسها كانت واجبات أمي. كنت آنس برحيل والدي أو حتى غيابه في العمل لأتمرغ في أحضان دلال أمي. كانت تحب أبي ولكنها كانت تحبني أكثر، كما يبدو. لا تستجيب لما يريده أبي بخصوصي، تتصنع قبول ما يريد أمامه ولكنها تفعل غير ذلك من خلفه. دلالها الزائد لي جعلني أشعر بقيمتي المتميزة حتى عليها هي، لم أتعود على سماع كلمات النهي منها في الطفولة ولم أسمح لها أن تتفوه بها بعد ذلك. صرت لا أتوقع المخالفة إلا من أبي ولا أتوقع الموافقة إلا من أمي. حين أرادت أمي أن تتمرد على هذه القاعدة كنت لا أقبل. لقد حرمتني أمي من الاستفادة منها بدلالها الزائد لي، صرت لا أطيق سماع نصحها حتى وإن بدت صادقة معي، صرت أشعر بامتياز صنعته في نفسي وأصبحت تجني ثماره البائسة بعد ذلك. حرمتني منها، سامحها الله.
أتذكر أبي وأمي أحياناً حين استحم في الحمام شتاءً. حين يتدفق الماء الحار لوحده أتذكر أبي وحين يتدفق الماء البارد وحده أتذكر أمي، أحب الاستحمام في ماء مزيج بين الحار والبارد وتمنيت لو تعاملا معي باعتدال. أتساءل أحياناً: لماذا تخصص كل واحد منهما في شيء واحد فقط؟ أبي في المخالفة وأمي في الموافقة؟ ليتهما تقاسما الشيئين معاً.
وصلت إلى موقع البناء. أنزلت ما في جعبة شاحنتي من رمل وسعدت حين رأيت المبنى وقد بدت ملامحه أكثر وضوحاً من ذي قبل. غمرتني سعادة المشاركة في الإنجاز. غمرتني سعادة نقل الرمل لبناء مبنى ولو صغير. سعادتي هذه تستحق كل عرق اليوم، ولكن ألم يكن بمقدوري أن أسعد لنقل نفسي من ضفة لأخرى، لنقل حروف اسمي من صفحة لصفحة، لنقل مستقبلي من سائق شاحنة إلى سائق مستقبل أجيال وأمة. آسف يا شاحنتي أمنيتي أن أكون في مكان آخر، ولكنها مجرد أمنية فلا تخافي
العدد 1457 - الجمعة 01 سبتمبر 2006م الموافق 07 شعبان 1427هـ