لا مناص من التسليم بواقع «الاختلاف» بين أبناء الأمة، بل بين الناس أجمعين. ولا مناص من التسليم بأن الحق واحد لا يتكرر «فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ» (يونس:32)، «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» (آل عمران:103). ولا مجال للجزم بأن كل اختلاف لا ينبع دائماً من نوايا سيئة، بل إن بعضه - بالتأكيد - ناشئٌ من أسباب مشروعة، ويجب التعامل معه بواقعية وموضوعية «رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» (البقرة:286). ولا خلاف بأن «الاختلاف» المنتهي إلى «الخلاف» و«التنازع» يتسبب في عواقب وخيمة وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» (الأنفال:46).
انطلاقاً من هذه المسلمات نتساءل: ما هو السبيل لتجاوز الاختلاف «المذموم»؟
للإجابة على هذا التساؤل أحسب أن من المفيد، إن لم أقل من الضروري، التعرف - بإيجاز - على طبيعة الاختلاف، وأسبابه، لنؤسس لآليات استبعاد المناشئ غير المشروعة المؤدية للاختلافات المذمومة.
إطار البحث
باعتبار تعدد ساحات الاختلافات وتوزعها على الفكر، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع... فإن ضيق المجال يفرض علينا أن نقصُر المعالجة ونحصرها في خصوص «الاختلاف الإسلامي».
وأعني بـ «الاختلاف الإسلامي» ما وقع بين أتباع الديانة الإسلامية من اختلاف أدى إلى تنوع فكري عُرِف بـ«التعدد المذهبي»، على صعيد الرؤية الكونية (العقيدة)، والتقنين والتشريع (الفقه)، والمسلكيات (الأخلاق).
واقع الاختلاف
ولا أجدني بحاجة إلى التأريخ للاختلاف في الساحة الفكرية الإسلامية، فقد أغنانا المؤرخون، فيما عُرف ببحوث الملل والنحل والمقالات بشكل خاص، عن الاستدلال على ذلك. كما أن مراجعة سريعة لكتب التراث الإسلامي، فقهاً وتفسيراً وعقيدةً.. تبيّن بوضوح واقع الحال في ذلك. مضافاً إلى أن الاختلافات بين المسلمين على المستويين السياسي والاجتماعي، ليس إلا انعكاساً طبيعياً لاختلافهم على مستوى الانتماءات الفكرية، بغض النظر عن ضحالة البنية الفكرية وعمقها، أو خطئها وصوابها، لدى هذا الفريق وذاك.
أهمية البحث
من نافلة القول الإشارة إلى ضرورة البحث عن الاختلافات، فإن ما تعانيه الأمة من التمزقات على أصعدة شتى، تعصف بها إلى حد الاقتتال أحياناً، يؤكد ضرورة المصير إلى التعرف على وجوه الاختلاف وأسبابه وحدوده...، إذا ما كنا بصدد البحث عن أشكال التقارب والوحدة والأخوة، التي تعد ضرورة حياتية من جهة، ومبادئ إسلامية أصيلة.
إن من الخطأ بمكان أن يشيع في أوساطنا مصطلح «الأمة الإسلامية» من دون أن يكون له (أي المصطلح) واقع موضوعي حقيقي نحتكم إليه وننطلق منه لرسم سياسات مناسبة لأوضاعنا كمسلمين حمايةً لمصالحنا على جميع الأصعدة، يتجلى ذلك في الأزمات، كما حصل في العدوان الصهيوني الأخير على لبنان. مع أننا أجدر من غيرنا بـ «اتحاد إسلامي» تنتظم فيه دولنا وشعوبنا ومؤسساتنا وأحزابنا... لتوافرنا على دواعي ذاك الاتحاد فـ «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (الحجرات:10).
إشكال فني وواقعي
قد يعاني الباحث في هذا الموضوع من مشكلة فنية وواقعية، تنبع من واقع أن الإسلام، اليوم، أصبح سمة اجتماعية لشريحة من الناس على هذا الكوكب، دون أن يعني أن المسلم ينطلق من مبادئ الإسلام في سيرته وسلوكه وفكره ونهجه بما يشكل معه أيديولوجيا. بل نجده يحرص أحياناً إلى التنظير للنأي بالدين، أعني نصوص الكتاب والسنة، والتراث الفقهي الإسلامي، بذريعة الاختلاف بين المذاهب حيناً، والمعاصرة حيناً... ليتخذ لنفسه وتياره تسمية تؤكد انه مسلم لكنه «غير إسلامي»!.
فإذا كان منحى المعالجة هو التركيز على الاختلاف بين المسلمين سواء كانوا إسلاميين أو لا، فسيتخذ مساراً يختلف عنه إذا كان المنحى هو التركيز على الاختلاف بين المسلمين الإسلاميين. وأعني بهذا الفريق الأخير هم من ينطلق من الكتاب والسنة في فكره وتفكيره.
ولعل الأنسب أن نختار الثاني لأسباب عدة أهمها التعرف على التفرقة بين الاختلافين المشروع والمذموم، بغية وأد بوادر الفتن التي يراد لها أن تنخر في جسد هذه الأمة. علّنا نوفق لمعالجة الاختلاف في منحاه الأول في مناسبة أخرى.
منطلقات
لدى رصد مختلف التيارات الإسلامية قديماً وحديثاً نجد جوامع بينها لا يختلف فيها اثنان، منها:
1 - مرجعية القرآن الكريم. فهو الوحي الرباني على قلب خاتم النبيين محمد (ص)، وأنه لم يزد حرفاً ولم ينقص حرفاً قال تعالى: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (الإسراء:9)، وقال تعالى في وصف القرآن إنه: «لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (فصلت:42).
2 - مرجعية السنة النبوية. باعتبار أن النبي (ص) هو الشارح للقرآن الكريم في معناه ومقاصده، وباعتباره (ص) معصوماً من الخطأ والنسيان في التبليغ والبيان. قال تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (النحل:64)، وقال تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (النساء:65).
3 - عدم قبول ما يتنافى ونصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة وفي ذلك قال الله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... الظَّالِمُونَ... الْفَاسِقُونَ» (المائدة: 45-47)، وقال تعالى: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ» (الشورى:10).
4 - لا تاريخية النصوص الشرعية، بمعنى أن القرآن والسنة غير محكومين بالزمان «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» (الأنعام:19)، وروي عن النبي (ص) قوله: «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة».
5 - لامكانية النصوص الشرعية، بمعنى أن مفادات النصوص الشرعية لا تتأطر بمكان دون مكان.
6 - لا قومية النصوص الشرعية، بمعنى أن تلك المفادات لا تعني قوماً دون قوم. قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء:107)
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1456 - الخميس 31 أغسطس 2006م الموافق 06 شعبان 1427هـ