تعرض فكر عبدالرحمن ابن خلدون، وتحديداً تاريخه ومقدمته، إلى الكثير من التفسيرات والتأويلات المتطرفة وصلت إلى حد التناقض. فهناك فريق وضع أعماله في موقع الريادة واعتبره مؤسس علم الاجتماع الحديث واتهم معظم المفكرين الأوروبيين على مختلف مدارسهم بسرقة أفكاره من دون ذكر فضله. وفريق اتهمه بالسرقة واستخدام مصطلحات ومفردات غيره من المفكرين المسلمين واستعمالها بمنهجية مختلفة من دون ذكر فضلهم عليه وريادتهم في مختلف الحقول التي تحدث عنها.
من الصعب ان نصل إلى حقيقة الأمر إذا لم نضع ابن خلدون في دائرة عصره. فهو رجل دولة واكتسب خبرة في العمل السياسي وهو ابن بيئته (المغرب، الأندلس ومصر) تعلم من تجربته وقام بتنظيرها واستفاد من علومه ومعارفه واحتكاكه برجال عصره. وهو ابن ماضيه وتراثه وما حمله الزمن من خبرات وتجارب ومناظرات جدلية وفكرية وثقافية إلى عهده، وأضاف إليها ما أفرزته الحضارات الإسلامية من تاريخ غني بصراعاته وتنوعه الثقافي وتعدده الأقوامي تمثل في تجارب لا مثيل لها في بناء الدول والحروب وغيرها من أشكال التعاون الإنساني والاتصالات التجارية وخطوط النقل ومعابر الانتقال. فابن خلدون هو نتاج هذا التتابع الزمني وفي الآن هو شاهد على تراكم الخبرات الإنسانية من علوم ومعارف وفلسفة وفن وشعر وغيرها من وسائل تتعلق بالشريعة وأصولها وما تفرع عنها من اجتهادات ومدارس.
لذلك لا يستقيم البحث ولا يتم الخروج من التطرفين (المؤيد لابن خلدون والمعارض له) من دون إعادة قراءة أعماله في ضوء التركيز على أسس نظريته في المعرفة ودراستها على مستويين:
أولاً، عناصر وعي ابن خلدون وكيف قام بتركيب فلسفته وتاريخه من عناصر مختلفة.
ثانياً، مصادر ابن خلدون الفكرية وكيف قام بتحليل تلك القراءات واستخلاصها وإنتاج نظريته في «علم العمران».
سنحاول هنا تقديم عناصر مكثفة أحياناً وتفصيلية أحياناً أخرى للاطلاع على حقول المعارف (تاريخ الأفكار) التي درسها وأعاد صوغها في منهجية جديدة قامت على انتظام الأفكار سواء في عرض المناهج ومناقشتها أو في الانتقال منها إلى مستوى أرقى في التفكير. فابن خلدون تميز بالتماسك النظري حين جمع الشتات المنثور في الكتب ونجح في ترتيب الآراء وتوليف المفردات وصولاً إلى توليد قانونه الذي استخدمه في بحوثه المعرفية والتاريخية.
ونجاح صاحبنا في تأليف منهج خاص به يعتبر أحد أهم انجازاته التي فشل غيره في التوصل إليها على رغم استخدامهم المفردات نفسها واطلاعهم على المصادر التي اعتمدها في تاريخه ومقدمته. وتفرد ابن خلدون يعود تحديداً إلى قدرته على ترتيب مصطلحاته وفق منهجية خاصة. وما يميزه عمن سبقه من مؤرخين وفلاسفة ومختلف الفرق الكلامية الإسلامية (المعتزلة) أو الباطنية (اخوان الصفا) هو المنهج قبل الأفكار. فأفكاره هي مجرد تنويعات مرتبة عقلياً وملحقة بقانونه الذي صاغ بأدواته قراءات متنوعة في حقول المعرفة والتاريخ.
الانتباه لقانونه
انتبه ابن خلدون لأهمية عمله لذلك نبه القارئ إلى إشكالات يمكن أن يتعرض لها فتختلط الأمور عليه وربما اتهمه بأخذ ما قاله من جديد عن غيره من قديم، فهؤلاء قالوا كلامهم «في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة، لكنهم لم يستوفوه» (المقدمة، ص 40). ويذكر مثلاً المسعودي وما نقله من كلام «الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم» ومن «كلام أنوشروان في هذا المعنى». ويذكر أيضاً «الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة» وهو غير «مستوف ولا معطى حقه من البراهين ومختلط بغيره» بينما إذا «تأملت كلامنا في فصل الدول والملُك» عثرت على تفصيل «إجمالها مستوفى» وهو «أوعب بيان وأوضح دليل وبرهان». كذلك يذكر ابن المقفع إذ تجد في كلامه ورسائله من «ذكر السياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهناه». كذلك حوّم القاضي أبوبكر الطرطوشي في كتاب «سراج الملوك» على «أبواب كتابنا هذا ومسائله» لكنه لم يوضح الأدلة واكتفى بنقل «كلمات متفرقة» لحكماء الفرس والهند و«غيرهم من أكابر الخليقة» ولا يكشف «عن التحقيق قناعاً» وإنما هو «نقل وتركيب شبيه بالمواعظ» (المقدمة، ص 41). فابن خلدون يشير إلى فضل من سبقه لكنه ينتقد أعمالهم. فالمسألة عنده مسألة منهج (قانون ينظم الأفكار) قبل أن تكون مجرد أفكار ومفردات مبعثرة من دون نظام، لذلك قال: «ونحن الآن نبيّن في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملُك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتدفع بها الأوهام وترفع الشكوك». (المقدمة، ص 42).
المسألة إذاً واضحة عنده وهي أن التشابه في استخدام المفردات والمصطلحات وربما الأمثلة والحكم ليس بالضرورة هو نقل أفكار عن أفكار بل المهم في أسلوب استخدامها وطريقة توظيفها في منهج تاريخي يقرأ تجارب البشر وتاريخ تطور الأفكار.
تضعنا الأوراق الأولى من المقدمة على الخط الصحيح وتساعدنا منذ البداية على التمييز بين تاريخ البشر (خبر عن السياسة) وتاريخ المعرفة. لذلك ركزت مقدمته على تاريخ الأفكار بينما تركز تاريخه على معرفة أخبار البشر. ونظم لكل بحث فصوله الخاصة من دون أن ينسى تداخل تاريخ البشر بتاريخ الأفكار وخصوصاً في المحطات الزمنية عندما لعبت النظريات المعرفية دورها في التأثير على التاريخ السياسي. إلا أنه، وهنا نقطة ضعفه، لم يربط دائماً بين الحقلين واكتفى بالإشارة إلى التأثير المتبادل عندما تقضي حاجة البحث إلى التذكير بالمسائل.
مع ذلك تميز صاحبنا بمسألتين: الأولى نجاحه في وضع تصور معرفي لتطور الأفكار ورصد تتابعها الزمني. والثانية نجاحه في عدم تفكيك الأفكار وبعثرتها على السنوات فهو رصدها كحقبات ومحطات كما رصد تاريخ الدول (دولة بعد دولة) في سياقيها الجغرافي والزمني واتصال التواريخ ببعضها أفقياً واستمرار صعودها عمودياً. فالدولة عنده صورة العمران بينما الفكر هو «حصول صورة المعلوم في الذات».
وحتى نفهم كيف توصل إلى إنتاج نظريته لابد من تحديد عناصر وعيه ومصادر فكره إذ سنجد في الحقلين مفاتيح متفرقة لنظريته إلا أنها مفاتيح لا قيمة معرفية لها لو لم ينجح صاحب المقدمة في تركيبها وتنسيقها وتنظيمها في تراتب نظري أسس من خلاله قانونه: علم العمران.
كيف توصل ابن خلدون إلى تحقيق هذا الانجاز المعرفي الذي كان له تأثيره الخاص في تطور علوم الاجتماع الحديثة؟
يرى صاحب المقدمة أن «علم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة» وإن الإنسان «جاهل بالطبع للتردد الذي في عمله، وعالم بالكسب والصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية» (المقدمة، ص 503). وأهم أدوات الكسب والتحصيل هي العقل لأن الإنسان أصلاً «من جنس الحيوانات، وإن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له، يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي، أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه، وهو العقل التجريبي، أو يحصل به في تصور الموجودات غائباً وشاهداً، على ما هي عليه، وهو العقل النظري». (ص 505).
وبعد أن يفرق بين «العقل التمييزي» و«العقل التجريبي» و«العقل النظري» ينتقل إلى تحديد مقاصد العلوم ومعاني تحصيل الفكر وإدراك المعارف. وبرأيه تهدف إلى ثلاثة أمور: أولاً، تصور الحقائق. ثانياً، اثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها. ثالثاً، استنتاج الفكر في اثباتها أو نفيها (المقدمة، ص 614).
ميّز ابن خلدون بين الحقلين وربط بينهما، فهو من جهة قرأ حقول المعرفة وتاريخها وتطورها الزمني، ومن جهة أخرى قرأ التطور البشري (العمران) وتاريخه ومحطاته الزمنية. وحتى نوفي صاحب المقدمة حقه لابد من التفرقة بين أسس نظرية المعرفة عنده وأسس نظرية التطور. فالأولى لها صلة بالشرع والعقل (تاريخ الأفكار) والثانية لها صلة بالعصبية والدولة (تاريخ العمران)
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1456 - الخميس 31 أغسطس 2006م الموافق 06 شعبان 1427هـ