نضع هذه المرثية أولاً، برسم الجمعيات النسائية المحلية وجميع مكونات المجتمع المدني بكل عناوينه وتلاوينه من أسود وأبيض وحتى الرمادي منه... ولمن يعرف القراءة جيداً داخل وخارج أوقات الدوام الرسمي، ولمن صفق طويلاً للغربان، ولمن غمس ريشته في مداد الصمت المتعمد زمناً. ونضعها أمام حتى من تحجرت قلوبهم وتصلبت عقولهم عن الفهم والاستيعاب. ونضعها ثانياً، برسم من يهمهم الأمر ومن لا يهمهم الأمر من المنظمات والهيئات السياسية الإقليمية والعربية والدولية، وجميع منظمات حقوق الإنسان على وجه الكرة الأرضية بل وحتى على أسطح كواكب المجموعة الشمسية، لأن ما يحدث أمرٌ غير طبيعي وخللٌ لا معقولية في استمراره. فالقضية جد خطيرة وبها دماء تسفك بالمجان وأنات ثكلى تُسمع في جوف الليل على فلذات الأكباد التي تتساقط يومياً بلا ذنب وليس هناك من مجيب لصرخات الثكالى والأرامل واليتامى. نضع هذه المرثية أمام أعين كل الناس الطيبين في بلدي علها تجد لها مسمعاً ومرجعاً، فهي لأم اسمها من خمسةِ أحرف تُجمع.
لم تصدق أن البيت قد خلا من صوته وحركته الدائمة... لم تصدق أنها للتوّ قد عادت من المقبرة بعد الغسل ومسيرة التشييع والدفن... لم تصدق أن أحمد قد فارق الحياة وغاب عن ناظريها إلى الأبد... كيف حدث ذلك لمجرد استنشاق رشقات دخان أبيض وأصفر... قالوا لها فيما بعد أنه سامٌ جداً... وهي تشعر بذلك مما أصابها أيضاً... بمجرد أن دخلت البيت وقع نظرها على دراجته الهوائية في ركن الحوش... اشترتها له بمناسبة نجاحه ولم يركبها بعد... انفجرت بالبكاء ورمت بنفسها قرب تلك الدراجة وهي تُهيل التراب على رأسها وتضرب بمقدمته العجلة، ثم أنّت أنة تفطرت لها جدران البيت وانتحبت: «أنا أمك يا قرة عيني... آه يا أحمد، لماذا أفقدوك الحياة؟ ما ذنبك يا عزيزي؟ هل لأنك ابني وابن هذه الأرض؟ وما ذنبي لأفتقد النظر إلى وجهك الباسم وأنت تصبّح عليّ كل شروق شمس وتمسّيني عند كل غروب، حتى غربت حياتك في ربيعها وبقيت أنا لخريفها الذابل بدونك... آه يا أحمد... كم سيطول غيابك وكم لك من دموع حرّى على الخد...».
فحملها زوجها المكلوم هو الآخر بفقد وحيده أحمد... ومواسياً لها بقوله: «انهضي يا أم أحمد... وتعزي بعزاء الله... اتركي الجزع... فابننا أحمد بعين الله حدث له ما حدث... والله هو المعين والناصر...».
ولكن في هجعة ليلة الوحشة لم تستطع أم أحمد النوم، ومع صوت الطلقات، دلفت إلى حجرة ولدها، فتحت الباب، فوقع نظرها على كل ما في الغرفة كما تركه أحمد قبل رحيله المفاجئ... اقتربت من طاولة دراسته وكان قد ترك عليها عدة المدرسة وحقيبته... فأمسكت بقلم أحمد بلا شعور... قفزت الدموع من عينيها... بدأت تكتب هذه الكلمات: «أحمد... بُني العزيز... أكتب لك من دنيا البشر الخوانة إلى دنيا الآخرة الآمنة... أردتك ذخراً لأيام شيبتى... ولكن يد الغدر كانت أسرع... وقع نظري على لوحتك التي رسمتها باللونين الأحمر والأبيض ومجسمك المحبوب إلى قلبك... لم يمهلوك لتكمل ما بدأت... أعرفك كنت تعشق اسم بلادك ولا تقبل السكوت أمام أي ساخر من شعبها وتاريخه المبجل ببطولات لن تُهمل... تصور... حتى حذاؤك أصابته طلقة تلك الليلة فتمزق جزء منه ليبقى شاهداً... لقد رتبت لك بقية ملابسك في الخزانة كما أفعل كل يوم... ولم أنسَ حتى زجاجة ماء الورد الصغيرة التي كنت ترشّ بها وجهك كل صباح بعد الصلاة وأنت تذكر الله وتصلي على الرسول الكريم... كم كنا فرحين بك حين مولدك... أناجيك يا نور عيني ولم يبقَ في ضرعي من لبن لك وقد فطمتك منذ سنوات... فيا ليتني لم أفطمك... ليتك بقيت هناك لكان أحفظ لك من شوارعنا وأزقتنا الملبدة بأبخرة وأدوات حضارية ضارة يقال إنها من قذارة العصر... وبوجوه لم نرَها من قبل... ليتك يا ولدي لم تكبر في أحشائي... وبقيت جنيناً لأحفظك بروحي ودمي وسهري وإن طال... فمن أجلك هو أشهى من العسل... كم حلمت بك وأنت خريج من المدرسة الثانوية... وأنت تلقي قبعتك في الهواء في حفل الجامعة... حلمت بك كما تحلُم كل الأمهات وليس أحلام الثكالى الموحشة... حلمتُ بيوم عرسك وأنا أستقبل التهاني من الداني والقاصي... حلمت بك رجلاً بملء قوامه وهندامه وأنت صبي تقف أمامي وأضمك إلى صدري كل صباح ومساء وأنت تُقبل جبيني وتهمس لي: أماه لا تنسيني من الدعاء أبداً... وأنت تهديني باقة المشموم التي تعودت عليها من حديقة البيت... يا الله... يا الله... كيف حدث لك هذا؟ ومن تلك الأيدي التي غيّبتك وبأي ذنب دفنتك ودمرت كل أحلامي ذات مساء حالك العتمة...؟ آه يا أحمد... ليتك لم تولد... ولم يكن هؤلاء لك ندًّا... اسمح لي يا قرة عيني ويا ثمرة فؤادي بأن أخاطب من في الدنيا خنقوك ولقبرك أوصلوك... لأقول:
يا نساء العالم...
هل لكم طفلٌ كطفلي...؟
هل لكم أمسٌ كأمسي... ويوم كيومي...؟
هل علمتم في حياتكم كيف يعيش كآبة المنظر
لمن هو نقي الجوهر...؟
إذن ابكوا معي، لا مواساةً لي، ولكن خوفاً على أبنائكم بعد أن استرخصتم دماءنا وفلذات أكبادنا... هل جربتم حياتكم بعد أحمد والدخان السام؟ رجاءً جربوا تلك الأدخنة السامة ولو لليلة واحدة... ثم اكتبوا عن شعوركم بعدها لعل دموعكم، إن ترقرقت، تغرق جدران الحقد والطغيان في نفوسكم وتستبدلها بطوفان الوعي والفهم... هل بكيتم في حياتكم بدل الدموع دماً كما يحدث لي... على استلاب العزة والكرامة والسكوت الذي أورثنا ذلاً ومهانة... فماذا أورثكم أنتم؟ أحمد... اسمح لي يا قرة عيني أن أهديك أنا هذه المرة باقة المشموم ولكن يدك لن تلتقطها مني بل روحك، لأني سأضعها على قبرك كل صباح... وأقول لك، أنا آسفة على رحيلك يا ولدي في الزمن الصعب... حيث لا أجد معيناً ولا نصيراً على من فعل بك هذا سوى رب العباد وأنا متشحة بالسواد... ولن أمد يدي لأناس تسببوا برحيلك. ولم يحفظوا فينا إلاً ولا ذمة ولا كرامة إنسانية... وأن أقول لكل امرأة لم يتحرك لها جفن أو تطرف لها عين لما حصل لنا على مرأى ومسمع منها في الداخل والخارج: ما قصرتوا... فموعد ومكان العزاء لم يحدد بعد! ولا عزاء للنساء والرجال إلا لمن يعي ما حدث لأم بحرينية...
أحمد... اسمح لي يا نور عيني... لقد قيّدوا قضية رحليك ضد مجهول... لكني أقسم لك بأني سأقابله ذات يوم... واسمح لي لأني قد استهلكتُ حبر قلمك كله... أرجوك لا تزعل مني يا ولدي... ما سفكت هذا الحبر من جسد قلمك المفضل لديك إلا من أجلنا جميعاً... فتقبل مداد عيني بدل ذاك الحبر لنكتب به تاريخنا القادم ولكن بلا بكاء...
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3496 - الإثنين 02 أبريل 2012م الموافق 11 جمادى الأولى 1433هـ
القوم يريدون منا البكاء على الخارج وهم من يقتلنا بالداخل
اليس غريب هذا المنطق يريدون منا البكاء على من بالخارج ويقتلونا بالداخل ولا يريد حتى اقامة العزاء قلوب متحجرة بنى عليها الحقد والعمى لحد ان لا يواسوننا حتى في شهدائنا فهل ينتظرون منا ان نمد اليد لهم والله يا أم أحمد لن نفعل ذلك أبدا ونعدك بأننا من سيواسيك في ابنك .
ساعد الله قلوب الأمهات الفاقدات
ساعد الله قلوب الأمهات الفاقدات ..شكرا يا أستاذ ونسأل الله أن يسمع نداءكم من في الأرض جميعا
اضرمت الدموع في عيني
يكفي ياستاذ لقد اغمرت عيني باالدموع فما حال الام الثكوله في ابنها..............عجيب يازمن من بلد
آه آه آه من أن تكون غريب في بلدك
مقال مؤثر جدا جدا ابكيتني يا استاذ محمد مقال يتأثر منه الحجر ولكن ليس قلوب الظالمين
قطعت نياط القلب
لقد قطعت نياط القلب يا أستاذ، لقد صورت الحال الذي تعيشه الأمهات الثكلى اللاتي يزداد عددهن كل يوم ..
غريب لماذا هذا التناقض
لماذا هالقضية ضد مجهول ، المفترض القبض على القاتل أو الجاني في مدة لا تتجاوز 24 ساعة.
فماذا وراء ذلك يا أم أحمد؟