قيل في الأمثال، إن الشهرة هي حياة الرجل الثانية. لكن تلك الشهرة، أيضًا، هي الحياة الأولى للعديد من الأنظمة العربية. فهذه الأنظمة، لا تأنس كثيرًا بالتأسيس المتين للدولة والمجتمع، بقدر ما تأنس بسباقاتها المتوالية فيما يُمكن تسميته بـ «الإنجاز الواهِم». وهذا النوع من الإنجاز، هو الذي تكون فيه الدولة متمنعة في تحويل الإنجاز (قبل أن يُصبح واهِمًا) إلى رقم صحيح، أو إلى ما هو أبعد من الإنجاز، سواءً من حيث المؤسسات أو شكل المجتمع ثقافيّاً.
من الأشياء التي يتم التفاخر بها ضمن مصطلح «الإنجاز الواهِم» في العديد من الأنظمة العربية، مسألة التعليم ورقيِّه وتطوُّره في تلك الدول. لكن ومع شديد الأسف، تنسى تلك الأنظمة، أن من فروض التعليم الطبيعية جدًا، ليس فقط الحصول على مجتمع نابِهٍ ومتمدِّن، قادر على فهم الأشياء، وصناعة القرار، وإنما جعل كل تلك العناوين، بما هي كموضوعات لمصاديق، إلى اختبارها العملي وتطبيقها في التحوُّل إلى الحكم الديمقراطي.
إنه لمن الغريب، أن يتم الحديث دائمًا عن التعليم بشكل «تسويقي» صرف. فمازلت أبحث (وغيري كثيرون) عن تفسير، لمقولة إن المجتمعات العربية، غير قادرة على الانتقال إلى المرحلة الديمقراطية، بسبب ضعف الإدراك لمفهوم الديمقراطية... لأنه ادعاء باطل، لا يستقيم مع المنطق ولا مع أصول التفكير السليم. بل أكاد أجزِم، أن السَّعي الذي بذله بعض العرب، لتحويل الربيع العربي إلى خريف عربي، هو نابعٌ من خوف هذه الأنظمة، من فروض التعليم الطبيعية، واستمرائها العمل بمفهوم «الإنجاز الواهِم» القائم على الاستحلاب والصورة.
يبيعوننا تلك الترهات، في الوقت الذي لم يعد فيه العالم متخلفًا بما يكفي، لكي نصدق ما يقولونه. إن البشر لم يعد يعيشون في عالم لا يسمع بسقوط الباستيل إلاَّ بعد ثمانية وعشرين يومًا. عالمٌ لا تصله أخبار العالم عبر المسافرين والبائعين الجوالين. عالمٌ لا يصله البريد المكتوب من دولة قريبة في غضون شهر. إنه عالم مختلف تمامًا. بحيث أصبح برد أوروبا يصيبنا بالزكام. وحديث داخل غرف مغلقة، يتم في أرض تبعد عنا آلاف الأميال، نراه مباشرة، مرئيًا ومحسوسًا. هذا عالم له متطلباته التي تتناسب وإيَّاه لا مع غيره من الأزمنة الغابرة.
في العام 1800 وما بعده بستين عامًا تقريبًا، كان واحدٌ من كلّ خمسة من البشر، يعيش في أوروبا فقط. وكانت الغالبية الساحقة من البشر لا تحسن القراءة ولا الكتابة. وكانت النسخ المتداولة لأية صحيفة فرنسية (كمثال أوروبي) لا تتجاوز الـ 5000 نسخة، ولم يكن هناك حتى تعليم ابتدائي واسع في إنجلترا. كل ذلك الحال، لم يمنع أوروبا من أن تتحوَّل إلى دولة نيِّرة وديمقراطية. ولم يمنع أن تكون في أوروبا ثورة مجيدة، يصدر خلالها البرلمان البريطاني قانونه الحقوقي في العام 1689. ولم يمنع ذلك من أن تقوم في فرنسا ثورة عظمى في العام 1789. هذه هي حقائق التاريخ التي نفهمها.
اليوم، وعندما نأخذ مثالاً، وهو سورية على سبيل المثال، سنجد أن النظام التعليمي في سورية، هو نظام صارم، ومواده بها تحدٍّ علمي، وقد أدى ذلك، لبروز مجتمع مدني، ذابت فيه الفوارق الكلاسيكية، القائمة على القوميات والطوائف، لكن الحكم في دمشق، مازال مسكونًا بنظام الفرد الواحد، وخلق برلمان باهت، ليس فيه طعم، ولا يستطيع إلاَّ أداء دور تابعي للدور الذي يقوم به الفرد الحاكم، ثم يأتي من يقول إننا نسير بالتدرُّج نحو الديمقراطية.
هذا الأمر تكرَّر في العراق أيضًا إبَّان حكم البعث، منذ العام 1968 ولغاية العام 2003. فالعراق، كانت لديه منظومة تعليمية متقدمة، وجامعات، وطاقم أكاديمي مرموق، يُدين إليه الملايين من العرب. وكانت الجامعات العراقية، تمنح طلابها علومًا، حساسة، في مجال الطب والهندسة والمحاماة، تجعلهم لا يواجهون أية صعوبة، عندما يذهبون إلى الجامعات العالمية في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. وليس سرًا أن نعرف بأن عشرات الأطباء والمحامين في البحرين، كانوا على مقاعد الدراسة الجامعية في العراق، خلال السبعينيات (بالتحديد) من القرن الماضي وهم اليوم يشكلون طليعة النخبة الأكاديمية والمهنية.
لكن، ومع شديد الأسف، لم يُحسن البعث، وخلال تلك الفترة، من تحويل كلّ ذلك الإنجاز العلمي إلى مدماك يبتني عليه نظام سياسي به تداول للسلطة، ومحاسبة وشفافية. بل على العكس من ذلك، فقد سعى إلى ضرب الطبقة الوسطى العراقية، بل ومحوها بالكامل، في حين كانت بغداد مهيأةً تمامًا لأن تتحوَّل إلى قوة اجتماعية وسياسية، وأن تصبح أنموذجاً ديمقراطياً. ولو أن البعث، لم ينشغل بحربين طاحنتين، وأقام مراوح سياسية واجتماعية في الداخل، لكان اليوم دولة مهابة، وبها من التقدم ما لا يتصوره أحد، لكن ذلك لم يتم.
لقد ولَّد ذلك الوأد عند العديد من الأنظمة العربية، حالةً من الانفصال التام، ما بين المقدمة والنتيجة. وأعاد حصر المجتمع في تلبُّدات رجعية، من التخلف الاجتماعي والسياسي، ومساواة كل هذه المخرجات العلمية وبناها الفكرية، بغيرها من الأطر الكلاسيكية والبدائية داخل المجتمع، وهو ما منحَ الأخيرة الغلبة في الصراعات والفوضى التي هي قائمة عليه من الأساس، بخلاف القوى المدنية، التي لا تأتلف إلاَّ بالعقل العام للمجتمع، والسلم الاجتماعي، وعدم تثوير الحساسيات الطائفية والقومية. وهو في حقيقته ذنب مُركَّب، ترتكبه هذه الأنظمة في حق مجتمعاتها، وفي حق مستقبلها، من أجل البقاء في السلطة عنوة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3495 - الأحد 01 أبريل 2012م الموافق 10 جمادى الأولى 1433هـ
رأيك أستاذ
هل ترى الحال في العراق الان أفضل من السابق ؟ ياليت نسمع منك الاجابة النيرة
سنابسيون
إذا كان تمديد الدوام المدرسي فيه دكتاتوريه من وزارة التربيه كيف نطلب ديمقراطيه من الوزارات الاخرى !!!؟؟؟
سنابسيون
إذا كان تمديد الدوام المدرسي فيه دكتاتوريه من وزارة التربيه كيف نطلب ديمقراطيه من الوزارات الاخرى !!!؟؟؟
الماء الراكد
مقالات الاستاذ محمد كالحصوات التي تلقي في الماء الراكدة من أجل تحريكها ، ولكن في العموم المياه الراكدة تحتاج الي قوة ميكانيكة بقوة ظ،ظ ظ ظ ظ ظ حصان حتي يتم التخلص منها وارجاعها الي حالتها الطبيعية