العدد 3493 - الجمعة 30 مارس 2012م الموافق 08 جمادى الأولى 1433هـ

يكفي بحثاً يا حليمة

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

حليمة أم لخمسة أطفال، تخرج كل صباح مع جاراتها في «تشاد» بحثاً عن شيء ليسدوا به رمق أطفالهم، وبسبب المجاعة التي تعصف بكثير من الدول الإفريقية، تقوم حليمة ومن معها بالبحث عن بيوت النمل واستخراج الحبوب التي خزّنها النمل على مدار أشهر، ثم يطبخنها ويطعمنها أطفالهن، وهذه كما تقول حليمة، هي الطريقة الوحيدة الباقية للحصول على طعام. وإذا شاهد أحدكم تقريراً على التلفاز عن المجاعة في إفريقيا؛ فإنه سيرى أن الذباب يجتمع على أعين الأطفال، وذلك لأن دموع الأطفال هي مورد الماء الوحيد المتوافر للذباب! نعم، لقد وصلت المجاعة إلى هذا المستوى السحيق والمرعب، ففي كل عام يموت قرابة 7.6 ملايين طفل من الجوع حول العالم، وهناك قرابة مليار شخص يعانون من الجوع، ومليار آخرون يعانون من الفقر المدقع.

قرأتُ هذه الأرقام لأحد الأصدقاء فقال لي: «وما شأني أنا بحليمة وأطفالها؟»، فعلاً قد لا نكون مسئولين عن مشاكل الجوع والفقر في العالم، لكننا بالتأكيد مسئولون عن الجوع الروحي الذي ينهش في داخل كثير منا. فعندما يعلم أحدنا أن خمسة وعشرين سنتاً أميركيّاً، أي ما يعادل درهماً إماراتيّاً واحداً، تكفي لسد رمق طفل وإبقائه على قيد الحياة ليوم آخر، ثم يُفضّل أن يحتفظ بذلك الدرهم في سيارته على أن يرميه في صندوق التبرعات؛ فإن ذلك يعد أبشع أنواع الفقر الإنساني؛ الفقر في المشاعر وفي الإنسانية وفي المسئولية.

هناك مؤسسات عالمية كثيرة تسعى إلى إسعاد البشرية والتخفيف من أزماتها، كالبنك الدولي والأمم المتحدة ومؤسسة «غيتس» التابعة إلى مؤسس شركة «مايكروسوفت» بيل غيتس، وهذه الأخيرة أكثر عظمة من غيرها. فقد تفرّغ غيتس وزوجته منذ عدة سنوات للتخفيف من معاناة البشرية، فقامت مؤسسته، التي يشترك معه فيها المليادير العالمي وارن بافِت، بصرف أكثر من خمسة وعشرين مليار دولار منذ العام 1994 وحتى اليوم على مشاريع تنموية حول العالم، كمحاربة الأوبئة مثل الإيدز والملاريا، وكالاستثمار في التنمية الزراعية في الدول الفقيرة، وكالمساهمة في الأبحاث التي تسعى إلى ابتكار عقارات طبية تساهم في التخفيف من آلام الفقراء في إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، وكإنشاء المؤسسات التعليمية في القرى والمناطق النائية. لم يقم بِل غيتس ببناء كنسية، ولم يموّل حملات للدعوة إلى دينه، فالأسرة التي يعاني أفرادها من خطر الموت جوعاً في أية لحظة، تحتاج إلى الغذاء والدواء لتصبح قادرة على دخول دور العبادة، والإنصات إلى العِظات الدينية.

قال لي أحد كبار أصحاب الأعمال في الإمارات إنه توقف عن بناء المساجد في إفريقيا وآسيا، واكتفى ببنائها في داخل الدولة، أما هناك فإنه يتبرع لبناء المستشفيات، والمدارس، والمكتبات، ويموّل برامج خاصة بإنشاء بنى تحتية للزراعة ثم مساعدة سكّان القرى بمبلغ مالي بسيط لبدء مشروع زراعي صغير. وعندما سألته عن السبب قال لي: «كم مرة جمع النبي (ص) زكاة المسلمين وصدقاتهم لبناء المساجد؟».

كُلّنا في حاجة إلى العطاء؛ فالفقير في حاجة إلى سدّ حاجته المادية، والغني في حاجة إلى ملء فراغه الروحي، الذي لا يُشبعه الأخذ بقدر ما يشبعه البذل. يحتاج الأغنياء إلى أن يجدوا أشياء لا تُشترى بأي ثمن ليشعروا بقيمة الحياة؛ والبذلُ هو الشيء الوحيد الذي لا يمكننا أن نضع عليه بطاقة أسعار. إن العطاء كالإيمان، يجرّدنا من كل الغرائز البشرية البشعة، ويقرّبنا من منازل الملائكة، ويرتقي بنا إلى الدرجات السماوية.

وأجمل عطاء هو الذي يأتي عند بلوغ الحاجة قمّتها، وأعني حاجة المُعطي الذي يبلغ ذروة إنسانيته عندما يُؤْثِر غيره على نفسه وهو غير مضطر إلى ذلك، وخصوصاً عندما يكون المتلقي غريباً عنه.

هذه ليست موعظة عن أهمية الصدقات، لكنها دعوة لإنهاء حالة الجمود الإنساني الذي يعيشها كثير منا كلما مرّوا بجانب صناديق التبرعات في المحلات التجارية من دون أن يتحرك وازع الرحمة في داخلهم ليخرجوا درهماً واحداً، لإطعام طفل واحد فقط، ومن دون مناسبة، فالرحمة لا تحتاج إلى مناسبات. إن العطاء الذي يأتي من دون مناسبة، ويصل قبل السؤال يُشبه المطر الذي يُنبِتُ الأرض من دون مقابل، ويرسم الفرحة على وجوه الأطفال. إن من يُعطي أفضل ما عنده يحصل على أفضل ما عند البشر؛ يحصل على الحب والسعادة. يقول علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): «لا تستحِ من إعطاء القليل، فالحرمان أقل منه».

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3493 - الجمعة 30 مارس 2012م الموافق 08 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 8:00 ص

      أين أصل المشكلة؟

      الشكر الجزيل للكاتب لتقديمه هذه الخدمة لفقراء العالم.
      واتفق معه في جميع ما تفضل به ..
      وأرى من الضروري أن أضيف أن الحل النهائي للمجاعات في كل العالم هو بقلع أصل المشكلة وجذورها.
      لماذا هناك مجاعات؟
      لأن هناك من يستأثر بالمال،
      ويمنع تقدم الدول الإفريقية،
      ويرى مصلحته في أن تبقى الشعوب فقيرة،
      وجاهلة،
      ومتحاربة،
      المشكلة سياسية في الدرجة الأولى
      وكل الحديث عن حلول أخرى ليس سوى ترقيعاً
      علينا أن نمنع الدكتاتورية،
      علينا أن نمنع التمييز،
      علينا استرجاع الأملاك المنهوبة،
      وعندها فقط
      تنتهي المجاعة
      ويأكل الجميع.

    • زائر 1 | 6:54 ص

      كلام جميل

      بارك الله فيك

اقرأ ايضاً