العدد 3493 - الجمعة 30 مارس 2012م الموافق 08 جمادى الأولى 1433هـ

الطموح

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

هناك مشهد تاريخي غاية في الأهمية وله صلة وثيقة -في تقديري- بمسألة الطموح، فقد روي أن إعرابيّاً أكرم الرسول (ص) وأراد (ص) ردّ الجميل، فقال له: «سل حاجتك»؟ فأجاب: «ناقة نركبها وأعنز (جمع عنز) يحلبها أهلي»، فقال (ص): «أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل»! قالوا: يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: «إن موسى (ع) لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف (ع) لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا عجوز من بني إسرائيل. فبعث إليها فأتته فقال: دليني على قبر يوسف، قالت: حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة.

الإعرابي يطمح إلى تملُّك قطيع من الماشية! والمرأة العاقلة تطمح إلى جنان الخلد وكأنها تلبي نداء خاتم الأنبياء وسيد البشر الذي كان يذكرنا بسقفٍ عالٍ من الطموح: «إذا سألتم الله فسلوه الفردوس الأعلى» وقول الإمام علي (ع): «ما رام امرؤ شيئاً إلا وصله أو ما دونه». وقول أبو القاسم الشابي:

أبارك في الناس أهل الطموح

ومن يستلذ ركوب الخطر

ومن يتهيب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحفر

والعلّامة ابن منظور في موسوعته «لسان العرب» يذكر أن الطموح هو الارتفاع، فيقال بحرٌ طموح الموج، أي مرتفع الموج. والطموح هو السعي إلى المراتب العليا والآمال الواسعة. وقواميس علم النفس تشير إلى أن الطموح عبارة عن المستوى الذي يتوقع الفرد أن يصل إليه على أساس تقديره لمستوى قدراته وإمكانياته.

وبالنظر إلى واقع الحياة نجد أن التطور إنما يأتي على أيدي الطامحين الذين يسعون إلى تحقيق أحلام وأمنيات سامية وغايات نبيلة، كانت مبادراتهم الدعامة المهمة لرقي مجتمعاتهم وشعوبهم، بل مثلت تلك الطموحات أساس التقدم العلمي والصناعي والتجاري والثقافي.

فلو تخيلنا جدلاً أن الحضارة البشرية تجمدت واكتفت بما لديها من إنجاز لكانت معيشة الناس في بيت من طين، ولأمضت الناس ليلها في ظلام دامس تستخدم زيت السراج وتتنقل بواسطة الدواب والبغال.

لكن موضوع الطموح (Aspiration) ليس من الموضوعات السهلة، وما نطرحه هنا هو تشكيل من قراءة متأنية لتراثنا الديني وما استفدنا من مدرسة الموارد البشرية - وعلى الأخص كتابات ستيفن كوفي ومزجه ببعض التجارب الشخصية في الحياة - ففي تقديري أن الاهتمام بالطموح لا يزال في بداياته، وقد مرّ عبر عدة أجيال من الفكر حيث كان في بداياته مندسّاً بين ثنايا علم إدارة الوقت، وكان حينذاك يتمركز حول جدولة الأعمال، بمعنى أن يقوم الإنسان بالتفريق بين الأمور الروتينية والأمور غير الروتينية، فيقوم بحذف الأمور غير المهمة فيحقق ما يصبو ويطمح إليه.

ثم جاء الجيل الثاني من الاهتمام بالطموح وركز على ما يسمى بالأوليات. وكانت الفكرة أن يركز الإنسان على جدول الأعمال حتى يكشف من خلال خارطة الوقت عن الأعمال التي ليست على درجة عالية من الأهمية. أي أن يبدأ «بالأهم قبل المهم»، فيحقق غاياته في الوجود. ثم جاء الجيل الثالث واهتم بما يعرف بإدارة العمر، بمعنى أن يكتب الإنسان رسالته في الحياة، «فبدلاً من أن يبرمج الإنسان ساعته يبرمج بوصلة حياته» بحسب تعبير كوفي.

ومن خلال تواصلنا المباشر مع آلاف المتدربين والمتدربات؛ نلاحظ أيضاً أن هناك إشكالية قائمة تتمثل في الخلط بين الطموح والأهداف. الطموح رغبة قوية داخل النفس لتحقيق أمر ما وإنجازه، فهو -أي الطموح- نوع من الاشتغال الداخلي، ولعله يمثل الخطوة الأولى والمحفزة لكل أشكال النجاح، بينما الهدف نقطة تراها أمامك وتريد أن تصل إليها وتنتهي. لذلك فالطموح قد يتكون من عدة أهداف مرحلية تساعدك لكي تصل إليها في المستقبل.

والطموح مرتبط بما يتحدث عنه علماء النفس: الدافع والحافز والباعث والرغبة، فعلى رغم اختلاف المعنى فإنها تتضمن التحريك ودفع النشاط والإلهام، وكأن الطموح بوصلة ترشدك للوصول إلى غاياتك. يقول الرسول (ص): «لو تعلقت همة أحدكم في الثريا لنالها». ويقول الإمام علي «رب همةٍ أحيت أمة». وتقول لويسا ماي: «أجد إلهامي حيث تشرق الشمس، قد لا أصل إليها، لكن يمكنني النظر إلى جمالها وشق طريقي على ضوئها».

قبل الختام؛ أرغب في التوقف عند محطة تربوية تتصل بالنظريات المفسرة لحاجات الإنسان وعلاقتها بالطموح. ولعل أقرب النظريات هي نظرية محدّدات الذات Self- Determination Theory. وتفترض هذه النظرية أن هناك ثلاث حاجات نفسية للإنسان وهي (الحاجة إلى الاستقلال، والحاجة إلى الانتماء، والحاجة إلى الكفاءة). وبما أن المجتمع يلعب دوراً مهمّاً في تحديد الطريقة التي يشبع بها الأفراد حاجاتهم، فمثلاً في دول الغرب يسهل فيها تحقيق الحاجة إلى الاستقلال لأنها من ضمن القيم الناشطة هناك، وفي المقابل؛ فإن الحاجة إلى الانتماء أو الصلة في البلاد العربية من القيم القوية، لذلك فإن الإنسان في وطننا العربي بحاجة إلى تنشيط حاجتين أساسيتين: الحاجة إلى الاستقلال والحاجة إلى الكفاءة، فيكتمل بذلك مثلث الحاجات. وفي الوقت نفسه يتحقق الشعار الذي نكرّره دائماً: «إن تكن ذا همة، تصل إلى القمة».

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3493 - الجمعة 30 مارس 2012م الموافق 08 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً