السنوات تأتلف في تعداد أيامها وتختلف في أحداثها. وعندما تزيد الأحداث في السَّنة، تصبح أطول من غيرها، والعكس صحيح. إذاً، الطول والقصر، محكومان بما جرى في تلك السنين. فالسنوات التي جرت فيهما الحرب الكونية الأولى (1914 – 1918) والحرب الكونية الثانية (1939 – 1945) هي أطول من سنوات بالتعداد ذاته، وقعَت في عقد مختلف، لأن وقائع الحربيْن المذكورتيْن، قد غيَّرت موازين عِدَّة، وأطاحت بنظم، وأجهزت على حياة الملايين من البشر.
هذه القاعدة، تنسحب على أشياء كثيرة، من ضمنها الكتب. فهذه الأسفار، ليست العبرة بعدد قرطاسها، وإنما بما تحتويه أوراقها من أفكار وجِدَّة. مَنْ منا ينسى ما كتبه إيتيان دو لا بويسي عن العبودية الطوعيَّة؟ لا أعتقد ذلك، على رغم أن أوراقها لم تتجاوز الـ 44 صفحة، وكذلك الحال، بالنسبة لكتاب نظام الزمان لكريستوف بوميان، في حين، أن هناك كتبًا لا حصْر لأوراقها، لكن الذاكرة قادرة على نسيانها تمامًا بمجرد إبعاد البصَر عن غلافها. وعندما يجتمع التميُّز، مع التبحُّر والتوسُّع في المبحث، تصبح الفائدة أعمق، وأكثر تأثيرًا على المتلقي.
مؤخرًا، صَدَر كتاب عصر التطرُّفات... القرن العشرون الوجيز 1914 – 1991 للمؤرخ الكبير والمبدع، إريك هوبْزْباوْم. وهو بالمناسبة، ختام بحثه الموسوعي الضخم، الذي أرَّخ فيه للعالم المعاصر، وبدأه بعصر الثورة... أوروبا 1789 - 1848، ثم عصر رأس المال 1848 - 1875، ثم عصر الامبراطورية 1875 - 1914، وأخيرًا، عمَّدَه بهذا السِّفر الثمين، عصر التطرُّفات، الذي جعله في 1118 صفحة، مُوزعة على ثلاثة أقسام، وتسعة عشر فصلاً، غطَّت 77 عامًا من سنين القرن العشرين، بدأت في العام 1914 وهو عام اندلاع الحرب العالمية الأولى، وانتهاءً بالعام 1991، وهو عام انهيار الاتحاد السوفياتي عمليًا، حيث أسمى تلك الفترة بالقرن العشرين الوجيز.
يجزم المؤلف، بأن القرن العشرين الوجيز، قد أسهم في صياغة المستقبل، وأن أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، من القرن العشرين، قد شهِدت خاتمة حقبة من تاريخ العالم، وبداية حقبة جديدة. وعندما جاء عصر الكارثة الممتد من العام 1914 ولغاية انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان قد ظهر أمران اثنان. الأول: أن ثلاثة عقود سبقت الكارثة، كانت بمثابة العصر الذهبي، الذي تجلى فيه التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والثاني: هو أن الحقبة التي تلته، شكَّلت مرحلة جديدة، صار سَمْت أوروبا (والعالَم) يسير على إثرها وتأثيراتها. وبين الحقبتيْن، كان العالم يدفع ثمنًا باهظًا جدًا، في أكلافه البشرية والمادية إلى حد لا يُتصور.
ما بين العام 1816 والعام 1965 وقعت هناك أربعة وسبعون حربًا دولية، أكبرها كانت الحربان العالميتان الأولى (1914 – 1918) والثانية (1939 – 1945)، وحرب اليابان ضد الصين (1937 – 1939) والحرب الكورية (1950 – 1953)، وهي جميعها حروب، قد وقعت في الفترة التي هي محل الدراسة في الكتاب. لقد كانت كلفة هذه الحرب في الأرواح باهظة جداً، وقد كان السبب في ذلك هو أن جميع الدول، كانت مشتركة فيها بطريقة أو بأخرى. فأوروبا، التي تضم خمسين بلدًا، لم تستثن منها سوى خمس دول، هي ايرلندا، السويد، البرتغال، إسبانيا وتركيا بجزئها الغربي، وبالتالي، فقد كان الوضع يشِي بأن العالم سيتبدل حتمًا أمام هذه المأساة، التي غطت جغرافيا العالم بأسره.
أيضًا، كان لاندلاع الثورة البلشفية، في العام 1917 أثره البالغ، في صوغ عالَم مختلف تمامًا. فهذه الثورة هي الأبرز حدثاً بعد الثورة الفرنسية (1789). لنا أن نتخيَّل، أنه وبعد ثلاثة أو أربعة عقود، بوصول لينين إلى برتروغراد، كان ثلث البشرية، يعيشون تحت حكم أنظمة شيوعية. وكان هذا الأمر، قد خلق تحديًا سياسيًا حقيقيًا، للورَثة الوحيدين (هكذا يروْن أنفسهم) للنفوذ العالمي، وخيرات الأرض. ولذلك، وقعت أكبر حرب طويلة بين ضفتيْن، سُمِّيَت بالحرب الباردة. وهي في الحقيقة، صراع حضاري، وصراع بين مشروعيْن، لم ينته إلاَّ بالغلَبَة لأحدهما على الآخر، تمثل بانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، وهو ممثل أحد الكتلتيْن المتحاربتيْن.
التحدي الآخر، كان انهيار قيم الحضارة الليبرالية ومؤسساتها. لقد كانت القيم التي بدأتها الثورة الفرنسية، وتطوَّرت عليها أوروبا لاحقًا، تعني التوجس من الدكتاتورية والحكم المطلق، والالتزام بالحكم الدستوري في ظل حكومات ومجالس تمثيلية منتخبة بحرية، وتضمن حكم القانون، وحرية التعبير والنشر والتجمع، واستهداء الدولة والمجتمع بقيم العقل والنقاش العام، والتربية والعلم، وقابلية الارتقاء بالوضع الإنساني. وكانت مثل هذه القيم، قد اكتسحت دول العالم. بل حتى روسيا وتركيا قدمتا تنازلات في مجال الحكم الدستوري في العام 1914. وفي الشرق قامت إيران باستعارة دستور من بلجيكا. والدول الوحيدة التي لم تعرف انتخابات كانت دولاً متحجرة، كالنيبال واثيوبيا ومنغوليا وأجزاء من الخليج.
لذلك، عندما وصلت النازية إلى ألمانيا، والفاشية إلى إيطاليا، والدكتاتورية في إسبانيا، وقبلها الحكم العسكري في تركيا ولاحقًا اليابان، قد خلق ذلك حالة من الصَّدمة لليبرالية السائدة حينها. فمن بين 35 دولة لديها حكم دستوري منتخب في العام 1920، لم يبق منها في العام 1938 سوى 17 دولة، ومع حلول العام 1944 لم يبق منها سوى 12 دولة. لقد قاد هذا التطرف الرهيب العالم إلى أشرس الحروب التي شهدها على الإطلاق، وكلفه ضريبة مادية وحضارية لا تعوَّض. والغريب، أن كلّ ذلك التطرف، كان قد أتى به اليمين السياسي، سواء في ألمانيا أو إيطاليا أو إسبانيا أو اليابان، بل وحتى في فنلندا وبولندا وصربيا.
هذه الأحداث، شكَّلت هاجس العالم إلى يومنا. وهي في الحقيقة، مفصل لا يجب أن يغيب عن أيّ دارس لواقع أوروبا، أو بالأحرى للحافة الأورآسيوية برمتها. ولأن كتاب «عصر التطرَّفات» لا يمكن تغطيته بسهولة، وفي مقال منفرد ووحيد، نظرًا لموسوعيته وشموليته، فإن التفرغ لمثل هذه الدراسات، يفتح الباب أمام كلّ قارئ، لأن يُشكل صورة جغراسياسية للمشكلات الدولية، سواء على مستوى السياسات الداخلية للبلدان، أو على مستوى بناء الاقتصاد العالمي الرأسمالي.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3491 - الأربعاء 28 مارس 2012م الموافق 06 جمادى الأولى 1433هـ
تحية إلى كاتبي المفضل
أود أن أعبر عن سروري برؤية أعمدكم في الجريدة أستاذنا العزيز. وأيضاً أن أقترح الإسهاب في تحليلاتكم عن النهضة الأوروبية ما بعد الثورة الفرنسية ودخول مرحلة الإمبريالية في كتاب منفصل. لكم جزيل الشكر.