السياسة من دون ضمير مفسدة وخراب ومشروع تفتيت وتجزئة ومشروع عدم. كالأرض البور هي السياسة التي تتحرك في/ ومن الفراغ وتتحرك بضرب «الوَدع» من قبل مجموعة من المتطفلين والأمّيين والمتملصين تحت أي مسمّى كان. هم من يقود الأوطان إلى أكثر من مجهول. سياسة كتلك إما أن تحوّل الأوطان إلى جغرافيات للعبث؛ وإما إلى طاولات روليت؛ وإما إلى مشروعات قبور برسم حجز سكانها في أية لحظة.
أولئك هم من يصنع أو لنقل يصطنع الهويات ويفبركها ويخلقها من عدم. ثم إن الهويات لا يمكن أن تصنع أو تصطنع. هي مثل الهواء في بكارته وطبيعته مهما تشيطنت المخططات وتذاكت في هذا السبيل. جينات الأرض والهواء والضوء والتراب، قبل جينات الأفراد ستلوّح ببراهينها وإضباراتها في وجه عبث يظن أنه بلغ ذروة تذاكيه وتحايله وطعنه للحقائق والثوابت.
السياسة التي تقطع أوصال الروابط بين الناس هي محل جزارة. السياسة التي تنسى دورها في إدارة شئون الناس هي خارج الحضور وخارج المعنى وخارج القيمة. هي محض استبداد في هيئة دولة، ومحض اختطاف للمصائر تحت يافطة تعهد شئون الناس. هي محض عبث في أول القول وخاتمته. في أول القناعة والقذف بها في وجه الزمن ومعاصريه والمتفرجين على موهبته في التحايل الذي يمارسه المتحكمون في تفاصيله.
السياسة ليست نزهة للممسك بها لتتحول إلى عذاب وجحيم لمن هم تحت رحمتها.
السياسة موازنة في الأمور لا يمكن أن تجمل في أول أو ثان. هي ما بعد ذلك. لأن طرف التعامل معها أكبر منها وهو موضوع نشأتها ووجودها وتبرير دورها (الإنسان).
لا أحد في هذه التحولات من حولنا، تحولات الخيارات التي بدأت إرهاصاتها من حولنا في العام 2011، سيقتنع بجزرة تلقى إليه كي لا ينحاز إلى ربيع عربي بل كوني جارف ليسلم أمره إلى خريف وصل إلى سن اليأس، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتعاطف مع خريف هو في نهاية المطاف على أجهزة التنفس الاصطناعي. سيكون ذلك بمثابة هبَل وعتْه بالمجان.
حين تتحوّل الممارسة السياسية إلى «علْم» تضليل، وحين تتحوّل إلى مكنة للفرز والتمييز البغيض، وحين تتحول إلى مشروع نفي وتخريب استقرار وتواؤم وانسجام سجّل حضوره منذ قرون تكون بذلك تبرهن على عبثها وفراغها وتطفلها على زمن الناس وفاعليتهم الحرة.
تهدّدك السياسة أحياناً بالأصولية التي صنعتها أو اصطنعتها، فيما هي في الذروة واللب من الأصولية بتهافتها على المصادرة والتحريم والمنع وقائمة طويلة لا تنتهي من التابوهات التي لها أول وليس لها آخر.
التجارب تعلم من يريد أن يتعلم. السياسة عربياً لم تقدّم لنا دليلاً أو شاهداً واحداً على أنها تعلمت طوال أكثر من ستة عقود ونيّف. لا شيء يمكن أن يمنحك فرصة التعلم مثل الذي يدور من حولك من أخطاء، ومثل ما ترتكبه من أخطاء أيضاً. الأخطاء أحد مصادر التعلم والتجربة وحتى المعرفة. ذلك كلام لا يرمي إلى استعراض بلاغة في الوقت الضائع. بلاغة في وقت الخرس والعدم. إنها ماثلة وحاضرة ترقب كل تلك التفاصيل بعين من حرص وقلق. عين من تمنٍّ يبدو أنه أقرب إلى المُحال بعودة الرشْد إلى قواعده، وأن يطول ذلك الرشد الإنسان المنتهب في كرامته وقيمته.
السياسة - عربياً - لا تعترف بالقواعد. اعترافها يؤكد أنها ضالعة في الفوضى. والفوضى في مآل النتائج لا يمكن أن تشرعن لانتظام.
صفحات كثيرة فُتحت. صفحات كثيرة طويت، وصفحات كثيرة لم تعن لأحدهم شيئاً؛ لا في الفتح ولا في الطيّ. الإنسان موضوع السياسة المفترض في الذروة من التآمر عليه. في الصميم من نية وفعل إرساله إلى العدم وإدخاله في مفازات من المجهول؛ كي تصبح تلك السياسة بتخبّطها تحت دائرة ضوء المعلوم. وليس مهمّاً أن تتحدد قيمة وفعل ذلك المعلوم.
اتركوا لنا فسحة من خيار لنحدّد ونرفع سبّابتنا في وجه هذا العبث الذي يطل علينا ويباغتنا باسم السياسة؛ ويستل أرواحنا باسم السياسة؛ ويدفع بنا إلى المجهول الذي يحدّد مواصفاته وكوادره باسم السياسة. أرهقنا هذا العبث الذي يبدو أنه لا يريد أن ينتهي. أرهقنا الوهم - وذلك هو التوصيف الدقيق - الذي يحاول أن يقنعنا بقدرته على أن يأخذ بيدنا نحو محارق وكوارث وعدمٍ أكثر رحمة! لا شيء من ذلك فيه شيء من رحمة أساساً.
السياسة الحقّة هي القدرة على الإمساك بتفاصيل ما بعد الحياة. القدرة على التنبؤ بأحوال الناس والنأي بهم عمّا يعيدهم إلى سيرتهم الأولى. سيرة البدء والتخلف والتوحّش.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3491 - الأربعاء 28 مارس 2012م الموافق 06 جمادى الأولى 1433هـ