الفيلسوف اليوناني أرسطو لم يكن مرفّهاً بالمفهوم السائد. رفاهية الفائض وحتى رفاهية التفاهة بمعناها المنعزل عن معاناة الناس وقضاياهم وقيمتهم في الحياة. حين قال: «على قدر الهمم تكون الهموم». كان مرفّهاً بالهمّ المعرفي بالدرجة الأولى، وكانت مثل تلك الرفاهية بالنسبة إليه نوعاً من الهمّة؛ وخصوصاً إذا تجاوز المرء أناه إلى الـ «نحن». إلى الجمعي. تجاوز الهم الشخصي. وكل ذلك يحتاج إلى همّة للالتحام مع الهمّ الجمعي.
ثم إن الهمم لا يمكن أن تكون استعراضاً، ولا يمكن لها أن تكون وقوفاً واستماتة في البحث عمّا يحقق الأهداف والمرامي؛ بغضّ النظر عن مشروعية الوصول إلى تحققها؛ ولو كانت على حساب حقوق الآخرين. مثل ذلك طامّة ولا صلة لها بالهمم. وحين تتلاشى وتغيب ولا تُرى حقوق وهموم الآخرين بالنسبة إلى أي فرد منّا؛ فنحن قبالة انحراف وشذوذ على أكثر من مستوى. قبالة غياب وعمى عن رؤية ما بعد حيّزنا ومحيطنا، وما يضجان به من اعوجاج أوضاع وخلل مواقف وانحراف قيم.
الهمم بمجموعها تذهب إلى حال انسجام جماعي على أمر، قضية، حق، معنى، قيمة، إصلاح، تجاوز لما هو قائم ومستقر، ويراد له أن يكون مؤبّداً في قيمومته واستقراره. ذلك في حال من طبيعة الفرد ونزوعه إلى إصلاح أموره وإصلاح محيطه ومجتمعه والذين يرتبط بهم بأي شكل من أشكال العلاقات والتواصل.
ثم إن الهمّة في توصيفها الفردي لا تعني بالضرورة انفصالاً عن كل تلك القائمة الطويلة من احتياجات وشروط الانسجام والاستقرار الإنساني؛ مادامت لا تتحرك وتنطلق ضمن حقوقها وحاجاتها بمعزل عن حقوق وحاجات الآخرين. حقوق وحاجات المحيط. فالهمم التي لا تعمل على صنع الحياة في حدودها ومسارها الطبيعيين المرتبطين بالحقوق لا تعد همماً. هي محض «فَزَعَات» فئوية يظهر أثرها في تفتيت الكيانات ولو رفعت راية وبيارق الحقوق. لا يعنيها من قريب أو بعيد؛ صلحت الحياة أم فسدت؛ مادامت بمنأى عن الضرر وبمنأى عن تقلّص النفوذ والمنافع، وبمنأى عن التهميش، وفي ذلك نماذج آذت الحراك الإنساني وأصابته بالشلل حيناً؛ واحتقان العلاقات التي يروّج فيها ويتحرك ضمن رؤى يتوخى مصلحته فيها؛ ولو أرسل سكّان المحيط من حوله إلى حتف جماعي.
وبالعودة إلى الهموم، وهذه المرة ليست هموم أرسطو أحد معلمي العالم، ضمن عالمه الذي لم يكن معقّداً ومنتهباً بلصوص المراحل وانتهازيتهم؛ كما هو الحال في عالمنا الراهن المستلب من قبل جماعات هي خارج الإرادة في الخيار والفعل والتأثير. بتلك العودة تتضح لنا صور من انتخاب الهموم وفرزها بحسب الأهواء وبحسب الانتماء وبحسب المصالح وبحسب المغانم أيضاً. تلك ليست هموماً؛ إنها محاولة الامتداد الأفقي؛ ولو على حساب كائنات الأرض جميعاً. إنها محاولة ومشروع اختطاف للحياة وجعلها حكراً على مرضى ومنتفعين، والذين يستغلون آلام وآمال الآخرين بتقاعسهم وفُرْجتهم وصمتهم الطويل، حين ترتبك المراحل وتتداخل الحسابات؛ إنما هم عبء وعالة على الحياة، وأكبر مصادر الإساءة إليها. هم في العمق من تجييرها لصالحهم على حساب عذابات وتضحيات الآخرين. لا يملكون جرأة مواجهة، وشرف موقف. تماماً كالذين يتحدثون في بطولة فارغة عن الأسد من دون أن يروه؛ خلافاً لمقولة أحد التنويريين العرب وإن لم يكن عربياً (عبدالله بن المقفع): «أكثر الناس جرأة على الأسد، أكثرهم رؤية له»، ومثل أولئك ضمن همومهم وضمن انعدام هممهم لا يأنسون بغير الأرانب من حولهم؛ فيما الأسُود تدفعهم إلى البول اللاإرادي.
همّ أرسطو وقتها لم يختلف عن همّ إنسان العام 2012 ولا هم إنسان العام 5000 للميلاد. ليس هو تعاقب الزمن الذي يقرّ ويؤكد الحقوق إنه الإنسان نفسه. لم تختلف عن هم الإنسان المُصَادر أفقه وحقه في فتح فمه بحسب حائز جائزة نوبل الألماني، غونتر غراس. لم يختلف عن أولئك الذين ينافحون بالكلمة والوردة والمرابطة على مشارف وحدود حقوق لا يمكن لأي مخلوق في الدنيا أن يتلاعب بها؛ وإن فعل فإلى حين سيمرر وهمه؛ لأن الفطرة الإنسانية جُبلت على الانسجام والتواؤم مع الحق. الحق في عمومه غير مجتزأ وغير منقوص ولا يمكن التلاعب به ضمن وصفات هروب. في محاولة لإقامة عوالمها الخاصة والمغلقة؛ ولو على حساب نفي الآخرين من كل معادلة.
وهموم أرسطو أيضاً لم تكن بمعزل عن هموم ستترى وتتراكم بعد عشرات القرون لتستفحل مشكلة قيمة الإنسان ومركزه الذي يراد له أن يتراجع ويضمحل ويتوارى في كومة عملاقة من الانتهاك ومنظومة من المصالح الفئوية بشبكاتها المعقدة، والازدراء والتمييز الذي بات لا حدود ولا أفق محدداً له.
في هذا العصر لا نحتاج إلى أرسطو تحديداً. نحتاج إلى همم واعية تنحاز في جزء كبير من طاقتها إلى الإنسان. همم لا تميّز في توجّهها، ونحتاج إلى العمل على وضع حدّ ولو يسير لهموم من دون تمييز للون أو دين أو طائفة. تلك هي المسألة.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3488 - الأحد 25 مارس 2012م الموافق 03 جمادى الأولى 1433هـ