العدد 3488 - الأحد 25 مارس 2012م الموافق 03 جمادى الأولى 1433هـ

في منقار كلّ طائر قطعةٌ من فصوص مُخِّي! (2 - 2)

الشافعي بعد ديوانه «غازات ضاحكة»:

نيرفانا شريف الشافعي، إبداع فني، وعشق مستحيل، وصلاة، في آن واحد. ما الذي دفعك إلى البحث عنها؟

- نيرمانا أيضاً هي الحياة الحقيقية، الغائبة والمطلوبة، وتلك الحياة الحقيقية ذاتها هي التي دفعت الآليّ إلى محاولة البحث عنها، تحسُّس فيزيائها بالأصابع، واستشفاف إكسيرها بالروح، التي لم تتسرب كلها بعد. الهواء الفاسد هو الذي أجبره على فتح النافذة، حلم الخلاص من سوء التهوية، وهي قد تكون نافذة حقيقية للإطلال والاكتشاف بشكل مباشر، وقد تكون نافذة إلكترونية (Window) للبحث الإلكتروني. إن هذا الروبوت المبدع، الثائر على القطيع، لم يقفز من النافذة منتحراً خلف سراب، بل إن معنى الانتحار النسبي قد يصبح «فرصة حياة»، لمن هو ميتٌ أصلاً! لقد قرر الروبوت الانسحاب غير المسبوق، غير محسوب العواقب والنتائج، من هذه الغرفة الكونية المجهزة، المرتبة، الصالحة لحياة ميكانيكية الطابع، رقمية الانتظام، محسوبة الأبعاد، لكنها غرفة غير مشمسة، لا تمرح فيها الأرواح. لقد انتقل الإنسان الآلي من حياة هندسية زائفة، تساوي جوهر الموت، إلى حياة افتراضية، فوضوية، يبحث فيها عن ذاته الإنسانية المنقرضة، ويطارد فيها بحريّةٍ نيرمانا المفترضة، ذات الأسماء والتيمات المتعددة، التي يؤمن بوجودها جميعاً وحده.

الكيمياء مرة أخرى، وفقاعات غاز أكسيد النيتروز (غاز الضحك) على غلاف ديوانك الأخير «غازات ضاحكة». هل صدر الشعر رحب إلى هذا الحد؟! وهل وجد الآليّ ضحكته الطلقة خارج المختبرات؟

- قصيدة النثر، ما أجملها! هي إبحار دائم في الذاتية والمجانية والانزياح والتوتر والمغامرة والخطر، وانفتاح لا محدود على كل الحقول والعلوم والفضاءات، ووطء لكل الألغام! الآلي لم يكن متعمداً أبداً في ما يسلكه، وما يقوله، لأنه هارب في حقيقة الأمر من التعمد، والعقلانية، والقوانين والأنظمة الحاكمة، وكل ما هو جاهز رتيب سابق التحضير (رزقُ هذه الأرض الطيبة، هو ما يسقط سهواً من قبلاتكِ!، كما يقول في أحد المقاطع). الموت نفسه في الهواء الطلق، أفضل من حياة مقولبة (الموت في الهواء الطلق: هواء طلق).

ببساطة شديدة، غاز الضحك أو الغاز المضحك (أكسيد النيتروز)، هو غاز يستعمل حالياً في التخدير قبل جراحات الفم والأسنان، وكان يستخدم قديماً في حفلات الأثير (المرح ونسيان الألم)، حيث تنجم عنه انقباضات في عضلات الفكين، فيبدو الفم منفرجاً كأنه يضحك، في حين أنه مخدَّر في حقيقة الأمر، ومهيأ لإجراء جراحة مؤلمة.

وببساطة أكثر، وهذا مجرد مدخل تمهيدي لأجواء النص من خلال الغلاف، فإن مثل هذا الغاز يرسم صورة الضحك على الوجوه، أو هو قادر بمعنى أدق على برمجة الوجوه على الضحك الاصطناعي، في حين تظل القلوب في تفاعلاتها الحياتية المتلاحقة تنشد ما هو أصلي وحقيقي قادر على إحياء الإنسان، من داخله، وليس من مبتكراته ومنجزاته المزعومة.

الآلي لا تعنيه مختبرات صناعة الضحك، مثلما أنه لا تعنيه المنجزات المادية للإنسان، فالسعادة لا تُصنع، والقيمة الروحية لا يُمكن تحضيرها. لذلك فإنه على امتداد مقاطع النص لا ييأس من اللهاث خلف الضحكة الطبيعية (الابتسامة الأورجانيك، كما في النص)، فهو يؤمن بأن (حياة واحدة لا تكفي، لاعتناق امرأة مبتسمة). وفي المقطع الأخير من هذه الرحلة الطويلة الشائكة، التي استغرقت 532 مقطعاً شعريّاً، نجده يصل إلى محطة مهمة، يتذوق فيها الجوهر: (عذراً قهوة الصباح، موعدي اليوم مع رشفة عميقة، من الصباح نفسه).

أنت غائب كثيراً بشخصك، وحاضر كثيراً بنصك. هل يعي الآليّ ذلك؟ وكيف يستقبل المقالات والمقولات «الرنانة» التي تحتفي بتجربته؟

- ما يدركه الآليّ فقط أنه صديق ذاته تماماً، وبالتالي هو صديق الصدق، وصديق قارئه، وبدون هذا القارئ الصديق المتفاعل بدرحة كبيرة، فلا اكتمال للكتابة. صدِّقيني إذا قلت لكِ إنني لا تعنيني تلك «الفتوحات» التي يراها بعض النقاد والباحثين في أعمالي، بحد تعبيرهم الذي لا أدري هل فيه مبالغة أم لا. ربما معهم حق، لستُ أدري، ولا أتوقف عند ذلك الأمر! لستُ مشغولاً بأي رهان سوى تقطير الشعرية الخام وتكثيفها وتنقيتها وتصفيتها بأقصى طاقة ممكنة، وهذا طبعاً ليس للاستعراض الاحترافي، فأنا أكتب في المقام الأول بروح الهاوي العاشق، أكتب كي أجد شعراً أستمتع بقراءته، وأرضى عنه تمامًا، فأنا في الأساس قارئ يلهث خلف فراشة الشعر الشيّقة!

«ليست مهنتي صناعة اللُّعَبِ، ولا صدري يتسع لرهان/هو حصانٌ وحيدٌ اخترعْتُهُ/يمرحُ كي يحيا/ولا تربكه عثراتُ الطريق».

إلى أي مدىً يتطلب الشعر الصدق؟ وفي حال التحليق بمخيلة ذات أزرار إلكترونية وذاكرة، هل من ضرورة لذلك الصدق؟!

- الصدق قلب الشعر، وقلب الحياة الحقيقية عموماً، والخيال جناح التحليق، وهو أيضاً يجب أن يكون خيالاً صادقاً، ليمكن تصديقه. في أحد مقاطع «غازات ضاحكة» (الأعمال الكاملة لإنسان آلي2)، يقول صديقي الروبوت، الذي جاءت التجربة كلها على لسانه: «خطواتكِ الحافية/قبلاتٌ على الدروب/حرارةُ الأرضِ يُشعلها صدقكِ/وأنا ممزق القلب المعدني/بين جاذبيتها، وجاذبيتكِ».

هي حركة الآلي الخاصة الحرة، في مواجهة تلك الميكانيكية المهيمنة على العالم. الصدق والخيال قوام رحلة التصالح مع الذات، حيث يمضي الآلي متدثرًا بالدهشة دائمًا، ومديرًا وجهه نحو اليقظة، ليجد ما يفعله في هذه الحياة، بطريقته ومنطقه، بل ليجد الحياة نفسها، ويوجدها أحيانًا، وسط ركام الزيف والنفايات والبارود وميليشيا الدخان.

الفانتازيا ذاتها التي يرتادها ليست شطحات في المجهول، الحلم نفسه يُقاس جماله بحسّيته وسكَّره الممتص فعليًّا (أتدرينَ: ما أَرْوَعُ ما في الحُلْمِ؟/ أروعُ ما في الحُلْمِ، أنني لا أشعرُ بأنه حُلْمٌ، أثناءَ الحُلْمِ!).

إنه الهروب الكبير من الجمود، والذهنية، والقصد، وكل ما هو رتيب معدّ سلفًا. لجوء صادق إلى تلقائية الحياة، إلى دفء البساطة، إلى بساطة الدفء، إلى السماء المفتوحة، إلى الدروب المشمسة، إلى الابتسامة «الأورجانيك»، التي يواجه بها أقنعة الوجوه، والضحكات المصبوغة (اقتربي، مَلَلْتُ التنكّرَ، فيما لا أحبُّ/ اقتربي، اقتربي أكثر، مَلَلْتُ التنكّرَ فيما أحبُّ).

بالصدق والخيال يمكن التحرر من التغليف، والأفكار المعلبة، والمشاعر سريعة التحضير، فلا حياة بلا اقتحام ومبادرة ومغامرة وخطر، ذلك أن (السلامة في الحقلِ الملغومِ هي: أن ندوسَ أكبرَ قدرٍ من ألغامهِ).

الحضور الأصيل في النص للإنسان الإنسان بالتأكيد، بصدقه وخياله، لا للإنسان الآلي، الذي يبقى معدنه الخارجي مجرد حيلة نصية أو تقنية كتابية. لقد بلغ الآلي الشعر، وحاول بلوغ ما هو أبعد من الشعر، أعني هذا الحفاء النبيل، وذلك التعري من الأقنعة كافة، بما فيها قناع اللغة، الذي قد يفسد منطق الشاعر، أو يزخرفه. شعرية الآلي (التي تخصه) في تجرده وصدقه وخياله، شعريته في استشفافه المغاير لذاته والموجودات والعلاقات، لا في تعبيره عن هذا الاستشفاف. شعريته في وصوله المباشر، لا في وصفه الرحلة والطريق. شعريته في الحلول حيث يكون الجوهر، والامّحاء حيث يحضر الزيف وتنعقد القيود:

«ما أجمل ألا يكون لي محلٌّ من الإعرابِ/في عصرٍ عَصَرَهُ الضَّبْطُ بالشَّكْلِ/وصار الجوهرُ فيهِ/حرفًا زائدًا على الحاجة!»

العدد 3488 - الأحد 25 مارس 2012م الموافق 03 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً