في العام 1955، وحين كان ضيفنا الكريم يبدأ في ريعان شبابه عمله في التجارة مع والده وعمه المرحومين عباس وحاتم بهائي، كانت البحرين كما رآها وقتما كان عمره 21 عاماً... شاباً مقبلاً على الحياة بحماس، هي البحرين التي يراها اليوم وهو يبلغ من العمر 78 عاماً... منارة التقاء لأتباع كل الديانات والمذاهب والجنسيات... ولربما هو يدرك أن هناك الكثير الكثير مما أحدثه الزمان منذ حقبة الخمسينات حتى اليوم، لكنه مؤمن تماماً بأن هذه الحقيقة، وهي أن المجتمع البحريني بالفعل مجتمع يستوعب كل أصناف البشر، هي الحقيقة التي يعتنقها أهل البحرين الكرام ولا يتنازلون عنها... هذه هي طبيعتهم... بكل طوائفهم... محبون للخير... محبون للسلام والتواصل والمحبة والود بين الناس... تلك الحقيقة، لا يمكن أن تشطبها النوازل مهما انحرفت الأفكار لدى البعض ورأوا أو فعلوا غير ذلك.
حين تستعيد الذكريات، وتعود مع تاجر في أواخر عقد السبعين من عمره، إلى أيام شبابه؛ فإنك تقرأ البحرين بصورة جميلة رائعة لابد أن يحافظ عليها الجميع كما يوصي ضيفنا (معز بهائي عباس بهائي)، وهو حين يمتع محدثه بذكريات جميلة، وخصوصاً تلك التي تأخذ مسارها في مجال العلاقات الإنسانية، فإنك تعيش لحظات في عبق جميل... تخيل أن هذا الشاب الذي جاء الى البحرين من مدينة (مومبي). مسقط رأسه... اندمج سريعاً مع المجتمع البحريني حتى أنه كان يحرص على أن يرافق والده وعمه ومعارفه في الزيارات التي كانوا يقومون بها عصر كل يوم خميس لالتقاء الأصدقاء في مختلف مناطق البحرين... من سترة الى كرانة الى البديع وذهاباً الى المحرق وفرجانها الجميلة ولربما سنحت الفرصة للذهاب الى الرفاع والمالكية وجدحفص... صورة من الروعة ما يجعله محقّاً في أن يحتفظ بها... ولا تبارح ذاكرته... لكن في هذا الحوار الجميل، سنتجول في رحلة قصيرة، لكنها ممتعة حقّاً...
حسبما تسعف الذاكرة.. من مومبي!
حاج معز بهائي.. اسمح لنا أن نكون عندك ضيوفاً اليوم، ولعلنا في هذه الضيافة نسعد بأن نسألك بادئ ذي بدء عن صحتك... كيف أحوالك وكيف أحوال العائلة الكريمة؟
- يبدو أن هذا الصباح غير اعتيادي... تفاجئني صحيفة «الوسط» ولا يبدو أنني مستعد لحديث صحافي.. فمشاغلي كثيرة... على أية حال أنت مرحب بكم دائماً، وأنا والعائلة وكل الأحبة ولله الحمد في أحسن حال وأتمنى أن تكونوا كذلك... هل تود الحديث عن أحوال السوق؟
أحوال السوق حاج بهائي تهمنا، لكن ما يهمنا أكثر هو أن نرافقك قليلاً في رحلتك من الهند الى البحرين... فمما لا شك فيه أن اسم (بهائي) من الأسماء التجارية العريقة على مستوى البحرين والخليج... خذنا معك الى الباخرة ولنبدأ.
- بالطبع يسعدني ذلك فهي ذكريات جميلة، وسأحكي لك ما تسعفني الذاكرة بتذكره... فقد أتيت الى البحرين في العام 1955، وكنت في العشرين من العمر فأنا من مواليد العام 1934، لكن قبل أن أقرر الالتحاق بالعمل مع والدي وعمي رحمهما الله في البحرين، وكانا قدما وافتتحا أول محل لهما في العام 1911؛ كنت أعمل في التجارة أيضاً في (مومبي).. لأربع أو خمس سنوات عملت هناك مع واحد من كبار التجار في الهند وهو المرحوم فخر الدين ملا طاهر... بالمناسبة هو خالي لأبي.. أي خال والدي، وعندما جئت الى البحرين كانت تجارة والدي وعمي توسعت ولهذا عملت أنا وشقيقاي مشتاق وشوكت وأولاد عمي الذين غادروا البحرين منذ سنين وبقينا نحن نعمل في تجارة الوالد والعم، وقد بدأنا في مجال الملابس والكماليات، لكن بعد أن اكتسبنا الخبرة وجدنا منذ الخمسينات، أن قطاع القرطاسية والمستلزمات المدرسية هي الأكثر رواجاً، ولهذا غيرنا النشاط إلى نشاطنا الحالي وهو قطاع القرطاسية عموماً.
هذا ما تعلمناه من والدي
حسب علمي أن أول محل أسسها والدكم وعمكم رحمهما الله لم يكن في موقعه الحالي بالقرب من باب البحرين... كان في قلب سوق المنامة، أليس كذلك؟
- هذا صحيح، بل كان المحل الأصلي أكبر من محلنا هذا بمرتين على الأقل، لكنه لم يكن يبعد كثيراً فقد كان في عمارة يملكها المرحوم الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل خليفة، مقابل فندق أرادوس الحالي، وقد تابعت كيف أن والدي وعمي قاما بهدم المكان وتجديده وتوسعته، لكن مع مرور الوقت وظروف السوق والإيجارات وما شابه ذلك، انتقلنا الى هذا المحل، ولكن هذا الانتقال وللأمانة، فاتحة خير على عملنا حيث اتسعت تجارتنا وأصبح لدينا زبائن من البحرين والخليج... وعلى فكرة، كانت لدينا معاملات مع تجار من المنطقة الشرقية... الخبر، الدمام، القطيف، والإحساء منذ الخمسينات وليست وليدة اللحظة.
ولكن اسمح لي أن أقول إن حب البحرين وأهلها كبير في نفوسنا... بل تعلمناه من والديَّ رحمهما الله فقد توفيا ودفنا في البحرين، ولهذا فإنها موطن فيها رزقنا وفيها أحبتنا... عشنا وترعرنا فيها وأنجبنا عيالنا الذين يحبون البحرين أيضاً.. فولداي ذو الفقار ومصطفى يعيشان معنا في البحرين، وكثيراً ما تحدثنا إليهما وإلى معارفنا من جيل الشباب عن تجربتنا ورحلتنا الى البحرين... بالمناسبة، قبل أن أنسى... حينما خطت قدماي في البحرين لأول مرة في العام 1955، أتذكر المشهد... فالباخرة كانت تقف في المياه الساحلية على بعد 6 كلم تقريباً من فرضة المنامة، ثم تأتي القوارب الصغيرة لتنقلنا الى الفرضة... وكان منزلنا في فريج «الفاضل» بالمنامة... آنذاك... بالطبع لم تكن المنامة أو شارع الحكومة كما هما عليه اليوم... أتذكر مبنى للجمارك وبنك البحرين الوطني قريب من باب البحرين مقابل البحر تماماً، والسفن كانت ترسو محادية لشارع الحكومة.
أعتز بصداقة الجميع
حاج بهائي مَن مِن التجار البحرينيين وغير البحرينيين الذين بدأ المرحومان والدكم وعمكم أعمالهما معهم في بدايات عملكم في البحرين؟
-أتذكر بالطبع، كانت لدينا أنشطة تجارية وتعاون مع عائلة العريض وكذلك مع المرحوم السيد موسى العلوي، ومن العوائل التجارية البحرينية، كنا نتعامل مع الجميع تقريباً: المرحوم يوسف أحمد كانو، المؤيد، كازروني، دواني، الديلمي، جاشنمال، كومار، أصغر علي، ولعلي أنسى أسماء أخرى لكن كلهم بلا استثناء... اعيان تجار البحرين، لقينا ولا نزال منهم كل تعاون.
لاشك في أن منهم من ارتبط معكم بعلاقات صداقة قديمة؟
- باختصار، كل إنسان، صغيراً كان أم كبيراً، تعرفت عليه أو عملت معه أو تعاملت معه هو صديق لي وأعتز به مهما تكن مكانته، لهذا لا أقول إلا أن كل من عرفني وعرفته هو صديق لي، ولم تكن لي صداقات تكونت في مرحلة الدراسة على سبيل المثال كما يذكر البعض، إذ إنني أنهيت دراستي في الهند وقدمت الى البحرين بعد أن عملت مع خالي في مومبي 4 الى 5 سنوات، وعندما وصلت الى البحرين، بدأت مباشرة في العمل بمتجرنا وكنت على سبيل المثال، قريباً جداً من العمال الذين كانوا يعملون معنا والعدد الأكبر منهم من الإيرانيين واليمنيين وقد تعلمت اللغتين العربية والإيرانية بسبب قربي من العمال وأحببت اللهجة اليمنية... ولربما يمكن أن أقول لك إن من أصدقائي القريبين كان دادباي والشيخ المقداد شيخ طائفة البهرة، وحميد حسن طرادة وعلي كازروني، وايضاً، كنت أعمل مع هؤلاء الأصدقاء في التجارة بين البحرين والمنطقة الشرقية.
هكذا كانت مجالسكم... حافظوا عليها
وماذا عن المجالس الأهلية التي اعتدت مع والدك وعمك المرحومين الذهاب إليهما باستمرار؟
- كنا ولانزال نتواصل مع العوائل البحرينية وتلك التي استقرت في البحرين من كل الجنسيات والأديان والمذاهب، وكنا نذهب لزيارة المعارف في مجالسهم كمجلس عائلة كانو وعموم مجالس المنامة بكل فرجانها، وفي مسجد البهرة المقابل لحديقة الأندلس، كانت تعقد لقاءات بين فترة وأخرى يحضرها معارفنا في المناسبات والأعياد... بالفعل، أريد أن أقول في تلك الحقبة لم يكن الناس يتحدثون عن الطوائف أبداً... ولعلك تجلس في مجلس فتجد فيه لفيفاً مختلفاً من الناس وكلهم متحابون نتمنى أن تحيا هذه المظاهر... هي موجودة ولا أنكرها، لكنها ليست كما كانت في الماضي... حتى أن بعض تجار المنطقة الشرقية من الخبر والدمام والقطيف والإحساء بل ولربما جاء تجار من الرياض ومن الكويت لحضور مجالسنا ومنها أيضاً نعقد معهم الصفقات، وأنا أتذكر أنه في فترة الستينات كانت ما نسبته 70 في المئة من تعاملاتنا تأتي من المنطقة الشرقية.
لاشك كانت المجالس تناقش ما يجري حولكم في العالم سياسيّاً... كيف كنتم تستقون الأخبار، وكيف يتم تداولها؟
- كان الكثير من الناس، على رغم اختلاف الوضع عن عالمنا اليوم المفتوح فضائيّاً بالمعلومات اللامحدودة، كانوا يتابعون ما تيسر من معلومات، وكانت المجالس تتداول تلك القضايا ولكن معظم الأنباء السياسية كنا نستقيها عن طريق اذاعة لندن، وكان الإخوة من المنطقة الشرقية حين يأتون الينا ينقلون إلينا ما سمعوه أيضاً من إذاعة أرامكو من أخبار لأننا لم نكن نستقبل أثيرها بسهولة.
مراحل سوق المنامة... توثيق
بين العمل التجاري والعلاقات الاجتماعية وحبكم للبحرين وأهلها... لاشك أن لديكم ما يهمكم فيما يتعلق بسوق المنامة تحديداً... فهذا السوق يعتبر قضية مهمة كون المنامة هي القلب التجاري التاريخي ولها هويتها التي لا يمكن القبول بفقدانها؟
- نعم... هذه نقطة مهمة، فسوق البحرين... وسوق المنامة القديم تحديداً، لم ينشأ هكذا دفعة واحدة كما هو الحال مع سوق دبي مثلاً... بل مر بمراحل عديدة شهدت فيها البحرين والمنطقة تحولات سياسية واقتصادية متعددة، وفيه توثيق لمراحل مهمة، لهذا وجب الاهتمام به وتطويره بالشكل اللائق... في السابق، في فترات الأربعينات وحتى مطلع السبعينات، لم تكن هناك حركة اقتصادية بمثابة نهضة... فاذا كان أحد البنوك لديه 100 زبون آنذاك فهذا أمر كبير خلاف الآن... الفرص كثيرة والاستثمار يتطلب تطويراً في التشريعات والأنظمة واستقطاب رؤوس الأموال وتقديم التسهيلات والعمل الدائم لانعاش الاقتصاد الوطني وتطويره.
تعلمت من والدي وعمي قانوناً واحداً للتجارة... وهو أنك اليوم قد تخسر ويكون ربحك منخفضاً وغداً أو العام المقبل أو بعد عامين ربما يرتفع فلابد أن تعمل وتعمل وتعمل.
مرة أخرى... ارثكم نبيل
هي ضيافة كريمة حاج بهائي، فقد امتعتنا كثيراً... لكن لا نريد أن نثقل عليك... ولربما لديك ما تقوله لأهل البحرين... ممن يعرفك ومن لا يعرفك؟
- شعب البحرين شعب طيب ومتعلم... هذه الصورة الحقيقية التي أحملها عن شعب البحرين الكريم ومن لا يحمل هذه السمات؛ لا يمكن أن يكون قد أحب هذه الأرض الطيبة وأهلها الكرام... شعب طيب كريم مثقف يحترم كل الأديان والمذاهب... شعب عظيم... أتذكر أنه منذ سنوات ونحن نعقد اجتماعات مع طائفة البهرة يحضرها مختلف فئات المجتمع البحريني... من سنة وشيعة ويهود ومسيح وهندوس أيضاً... نلتقي في المناسبات الدينية والأعياد بكل محبة... وأتذكر أنه فيما مضي، كنا نستضيف بعض الشخصيات من الهند وندعو إليها جميع الأطياف وكانت تحرص على الحضور، وهذا ما حدث حينما استضفنا بعض الشخصيات مثل الشيخ خان شاهد عبدالحسين وملا محمد علي حيدر علي ورأينا كيف الناس تحتفي بهم بكل كرم وطيبة وخلق بحريني أصيل... في الستينات، كنت أمتلك سيارة من طراز فورد 1963، وكانت أجمل لحظاتي حينما اتجول عصر أيام الخميس في المحرق والرفاع والقرى لزيارة أصدقائي، وكنت أيضاً ألتقي باستمرار مع المرحوم الشيخ محمد آل خليفة والد كل من الشيخ عبدالعزيز وعبدالرحمن وخالد، وفي الوقت ذاته، كانوا وكان غيرهم كثيرون يزوروننا ونزور معهم مجالس ومآتم المنامة وغيرها من المناطق، وكان لدينا بالمناسبة مأتم البهرة وكان موقعه مقابلاً لمأتم بن رجب في بيت استأجرناه ونعقد فيه لقاءاتنا بالإضافة الى مسجد البهرة المقابل لحديقة الأندلس... ولعلي اقول لشعب البحرين: حافظوا على هذا الأرث النبيل.
كلام جميل جدّاً ومؤثر حاج معز بهائي... ولعل آخر سؤال لي أن اسمك جميل؟ هل للاسم قصة؟
- (يبتسم)... أنا أيضاً مسرور بهذا اللقاء واعذرني لضيق الوقت... وبالنسبة إلى اسمي، فقد كان والدي المرحوم الحاج عباس بهائي معجب جدّاً بشخصية الخليفة المعز لدين الله الفاطمي.. فأسماني باسمه.
هذه كانت جولتنا مع رجل الأعمال الحاج معز عباس بهائي... فيها من المشاعر الجميلة الكثير الكثير... أليس كذلك؟ حتى أن رفيق دربه (قيصر) الذي استقبلنا وودعنا بابتسامته الجميلة... يشعرك بأن هؤلاء الناس حين يلتقون مع غيرهم، فلا تشعر تجاههم الا بمشاعر الأبوة حيث يعاملونك كالابن... هكذا هم الناس الذين أحبوا البحرين وأهلها... صدق المشاعر وسمو الأخلاق هي سماتهم.
العدد 3487 - السبت 24 مارس 2012م الموافق 02 جمادى الأولى 1433هـ
جميل جميل
جميل جدا المقال
شكرا شكرا شكر
المرخي...
نعم نحب البحرين
نحب أن نشكر صحيفة الوسط ونحب نشكر المحررين فالمقال جداً جميل.. نحن نتعلم من هذه المحطات التاريخ في تاريخ بحرين.. مولودين في البحرين ونحبها..
تحياني
بنت بهائي