من منطلق عشقي الشعر (كتشكيلية)، وعشقي التشكيل (كشاعرة)، استوقفتني تجربة الشاعر المصري شريف الشافعي، بما تحتويه من ألوان مكتوبة، وحروف مرسومة، فضلاً عن تماس تجربته مع تفاصيل عصرنا الحديث، ذي الطابع الإلكتروني الرقمي، على نحو فريد، بما يُكسب كتابته خصوصية مؤكدة وسط أقرانه من شعراء «قصيدة النثر».
أصدر الشافعي خمسة دواوين، أحدثها منذ أسابيع قليلة عن دار الغاوون في بيروت بعنوان «غازات ضاحكة»، وهو ثاني أجزاء متتاليته الشعرية (الأعمال الكاملة لإنسان آلي)، المكتوبة بلسان روبوت ثائر متمرد، والتي صدر منها جزء أول بعنوان «البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية» (ثلاث طبعات في مصر وسورية ولبنان بين 2008 و2010، وإصدار إلكتروني عن مجلة الكلمة اللندنية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، العدد 55). وتعد تجربة «إنسان آلي» من أبرز أعمال شريف الشافعي وأكثرها رواجًا، حيث تناولها عشرات الباحثين والنقاد، واختيرت للتدريس في جامعة «آيوا» الأميركية و»جامعة الكويت» بوصفها «تمثيلاً لقصيدة النثر الحيوية، ونقطة التقاء الإبداع الورقي والأدب الإلكتروني».
مع الشافعي كان هذا اللقاء الحميم، حول ديوانه الجديد «غازات ضاحكة»، وحول أمور وقضايا متعددة تخص الشعر والكتابة الحديثة...
شريف الشافعي، شاعر يقترن اسمه بخصوصية لا يمكن نكرانها. هل هي الظاهرة الشافعية في الشعر، أم المدرسة الشافعية الجديدة؟!
- ما يعنيني صديقتي، ويكفيني جدًّا، أن تكون هناك قصيدة الشافعي الخاصة به، التي تشبهه ويشبهها، وتدل عليه كما يدل عليها. الشعر بصمة فردية في الأساس، ليست هناك نزارية ودرويشية وبياتية وماغوطية ودنقلية كما أتصور، لكن هناك نزار واحد، ودرويش واحد، وبياتي واحد، وماغوط واحد، ودنقل واحد، وهناك مئات المقلدين. ما أرجوه، ببساطة، أن أكون ذاتي في كتابتي، كما أنا، ولا يضيف إليَّ كذلك أن يقلدني أحد هنا أو هناك.
من «البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية» (إنسان آلي1) الذي صدرت طبعته الأولى العام 2008، إلى «غازات ضاحكة» (إنسان آلي2)، الصادر حديثًا عن «الغاوون»، أنت تبحر في أمواج وفضاءات من الزرقة. ماذا أضاف الإبحار الثاني (أقصد: الإصدار الثاني) إلى الإبحار الأول؟ وهل توقّع السندباد مكسبًا إضافيًّا بعد نجاح الانطلاقة؟!
- صديقتي المبدعة، بالنظر إلى عنوان «الأعمال الكاملة لإنسان آلي»، ندرك على الفور أنها تجربة متعددة الأجزاء منذ البداية، وقد حمل غلاف الجزء الأول في طبعته الأولى العام 2008 عنوانًا تمهيديًّا هو (الأعمال الكاملة لإنسان آلي1)، وهذا الترقيم يعني بوضوح أن هناك أجزاء أخرى، لأنني بالفعل بدأتُ العمل فيها كلها معًا. أما إصدار أي جزء في كتاب فإنه يتوقف على اكتماله كديوان مستقل يُمكن أن يُقرأ بذاته، وهذا ما أرى أنه تحقق حتى الآن في ديوانين فقط: «البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية»، و»غازات ضاحكة»، وربما يتحقق بعد ذلك، وربما لا يتحقق مرة ثالثة، إذ رأيتُ أن مدوّنات الآلي الأخرى لا تقدم جديدًا أو منفردًا يصلح ككتاب قائم بذاته.
ولو أن الأمر استثمار لنجاح، لما انتظرتُ أربع سنوات كاملة بعد الصدى الطيب الذي حققه الجزء الأول، والطبعات المتتالية واتفاقيات التوزيع في أكثر من دولة. إن إصداري كتابًا جديدًا مرهون بأمر واحد فقط، هو أن يكون عندي كتاب جديد بالفعل، والجدة هنا بكل معنى الكلمة.
وبالنسبة لما أتوقعه، فأنا لا أنتظر أي شيء، لكنني فقط أرتقب، وأشارك القارئ القراءة تحت ظل شجرة، فأنا أكتب للاستمتاع الشخصي أساسًا!
أما الإضافة التي يقدمها ديوان «غازات ضاحكة»، فهي متروكة لشبيهي وصديقي القارئ، ولا يمكنني أن أتحدث أنا عنها، خصوصًا أنني أرتجف من التأويل، وأتماهى مع الآلي تمامًا حين يقول في الديوان: (أمَنِّي نفسي بسلامةِ الوصولِ، لأن جُرحي سبقني ووصلَ سليمًا، إلى الضّفّةِ الأخرى من المتاهةِ).
لكن، على أية حال، يمكن القول بشكل عام إن الجزء الأول شهد إطلالة الآلي على أمل الارتداد إلى إنسانيته المفقودة، وبحثه المضني عن ذاته المغيّبة، في حين شهد الجزء الثاني تفاعلات الآلي المباشرة مع مشاهد الحياة وتفاصيلها، ليثبت بالفعل البسيط الملموس أنه إنسان إنسان، وليس إنسانًا آليًّا، وأن العالم، ذلك الضيف الراحل، قد يعود ذات صباح (ما أجمل الصباح الذي يحضر فجأة، ربما في الصباح!).
نتائج البحث في محرّك «ياهو»، كما في غلاف الجزء الأول، أكدت عدم وجود أية نتيجة للاسم «نيرمانا»، رغم المحاولات المئتين. لماذا بحثتَ عن كائن منقرض؟ وما قيمة ذلك؟
- لقد عاد الآليّ، بعد مئتي محاولة للبحث عن نيرمانا، إلى نقطة البداية حقًّا، ولم يعثر على نيرمانا، أو ذاته السرابية المنقرضة، التي كان يدرك مسبقًا أنه لن يجدها، لكنه أبدًا لم يعد حاملاً الصفر الحسابي، بل تحرر فعليًّا من كل القيود، اكتشف فردانيته وخصوصيته، تحرك ضد الإجراءات، ضد البرمجيات، خارج شروط الريموت كونترول في يد القوة المهيمنة، أية قوة، ضد سيادة النظام، أي نظام.
ومن ثم، فإنه تمكن من كشف ومعاينة سوءات عصره، الغارق في التسليع والميكنة والتقنية، ووضع يده على أبرز المستجدات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والعلمية، التي قادت الإنسانية إلى هذا المصير البائس، حيث لا مكان للفرد في معمعة سحق الجموع، وحيث تتم ممارسة كل الأمور والشرور بحساب: الاحتلال والقتل بحساب، الإنتاج والاستهلاك بحساب، المواليد الجدد بحساب، التربية والتعليم والتثقيف بحساب، العمليات الحسابية نفسها بحساب مفرط!
إن الرحلة، التي قام بها الروبوت، ربما لم تنجح إجرائيًّا كوسيلة لعثور الروبوت على إنسانيته المفقودة، واحتضانه المباشر لها، لكنها نجحت ضمنيًّا كغاية في حد ذاتها. هذا اللهاث المضني هو في حد ذاته قيمة كبرى، ودعوة إلى التمرد، وتجربة البديل، خصوصًا أنه لا يوجد ما يستوجب الحذر، فالحياة الآلية المتاحة هي حياة زائفة، محنطة، منتهية إكلينيكيًّا، محبوسة في غرفة كونية معقّمة، فكان الأجمل بالتأكيد أن تلوثها نيرمانا بفيروس التمرد اللذيذ. لقد حضرت نيرمانا من المجهول، لتقود صاحبنا الآلي إلى المجهول، وتدير اللعبة من الخلفية، وقد رضي الإنسان الآلي برغبات نيرمانا، دون سواها، لأنها الوحيدة التي عرفت كيف تديره من الداخل، وليس من الخارج. وهذا ما عبر عنه الروبوت بقوله:
«اعْتَرَضْتُ كثيرًا
على أن تُدارَ ذاتي من الخارجِ
ليس لأنني إنسانٌ حُرٌّ
ذو إرادةٍ وعقلانيّةٍ وَمُبَادَرَةٍ،
ولا لأنني مُتَرَفِّعٌ عن حَفْنِةِ دولاراتٍ،
بل لأنني كائنٌ أنانيٌّ إلى أبعدِ الحدودِ
أفضِّلُ مَصَّ أصابعي
على استعمالِها كأصابعِ ديناميت في المناجمِ
أو كأصابعِ سوسيس في المطاعمِ العالميّةِ
أو حتى كـ»أصابعِ زينب» لإطعامِ أطفالِي في العيدِ/
لماذا وافقْتُ بسهولَةٍ
على أن تُدِيرَنِي نيرمانا؟/
ربما لأنها تَحَمَّسَتْ لإدارتِي من الداخلِ»
هل تظن أن نيرميتا الخبيثة أحدثت لفصوص مخك صدمة حضارية؟ لماذا فضَّلْتَ التضور جوعًا، عند اشتمامك بخور الجيران، على التهام وجبة السمك الشهية المقلية؟!
- (في منقارِ كلِّ طائرٍ قطعةٌ من فصوصِ مُخِّي/ كلما شردَ طائرٌ عن السّربِ، قلتُ: هذه ومضةٌ نفيسةٌ من هَلْوَسَاتي!). إنها الرغبة في التحليق، والانطلاق خلف نيرميتا وبمعاونتها خارج مدارات الجذب، والفكاك من أسر التقنيات المسمّاة خطأ بالحضارة. نيرميتا هي صديقة الحفاء النبيل، وصديقة التعري الذي يكسو الإنسان ما يستحقه من الدفء الداخلي، ويغنيه عن الأردية المصنوعة.
لقد زادت الأمور توحشًّا فيما يخص استلاب إنسانية الإنسان، ومحو إرادته الحرة ومبادرته وقدرته على اتخاذ القرار، كذلك ترسخ منطق الاستقطاب وضرب الخصوصيات والهويات في مقتل، وإعلاء شأن الأرقام والبرمجيات وقيم التسليع والقوانين المسنونة، التي تحكم حركة البشر. الإنسان آلة مقهورة بالفعل، والقوة القاهرة أيضًا ماكينة عمياء. الاقتصاديون والسياسيون والحكماء يتخوفون من نضوب طاقات العالم، ويبحثون عن الطاقة البديلة، تلك الأضحوكة الكبرى في عالمٍ نفدت طاقته الروحية. ومن ثم، فإن الشاعر، أعني ذلك الروبوت المبدع المتمرد على القطيع المروضين الخانعين، يبحث أول ما يبحث عن الطاقة، التي تأكد نفادها بالفعل: الطاقة الروحية، ذاته المنقرضة التي تآكلت، فإن عثر عليها، واصل البحث عن أشياء أخرى فيما بعد. نيرميتا، نيرمانا، نيرفانا، أو تلك الطاقة، هي ما تقيه من الصدمة الحضارية التي أسرتنا بشباكها.
عند اشتمام البخور الطازج الساحر، فلا مجال لالتهام أو إعداد وجبة السمك المقلية الشهية، فالزيت المغليّ المتطاير سيحرق فراشة الانطلاق في الصدر وفي الضمير، وسيقضي على حلم خروج نيرميتا (الفراشة البريئة) من الشرنقة: (راقتْ لي مدفأةُ الفحمِ، ورائحةُ البخورِ القادمةُ من عند الجيرانِ/ فَضَّلْتُ تأجيلَ قَلْيِ السمكِ إلى المساءِ، كي لا يحرقَ الزيتُ المتطايرُ، فراشةً هائمةً في قفصي الصدريِّ/ تَوَقَّعْتُ حُلْمًا بديعًا في تلك الليلةِ، خصوصًا بعدما قررتُ النوم بدون عشاءٍ، وبدون غطاءٍ/ بالفعل، طَلَعَتْ نيرميتا من الشَّرْنقةِ، وراحتْ تُطقْطقُ عُنقَها بدلالٍ عدة مراتٍ، وأنا أُصَفِّقُ لها بحرارةٍ).
العدد 3486 - الجمعة 23 مارس 2012م الموافق 30 ربيع الثاني 1433هـ