اختلف العرب قديماً وحديثاً على وضع تعريف محدد للسياسة، ولذا فأغلب ساستهم يمارسها من منطلق بيت الشعر العربي الذي يقول:
سادةُ قومٍ لكلّ جميعُ... ساسةٌ للرجال يوم القتال
أو لقائل: لقد سوست أمر بنيك، حتى...تركتهم أدقّ من الطحين!
فإما نحن مسيّرون من قبل سادة القوم، أو طحين عند العجن! ولا طريق ثالثا - ولله الحمد - له علاقة بسياسة العدل للجميع، أو الحرية الفردية، ضمن المنظومة الإنسانية الحضارية للمجتمع.
أما أهل الغرب فناقشوا السياسة طويلاً وعلموا أنها من جوهر الإنسان ومن معارفه الفطرية لأن الإنسان، كما خلقه المولى عز وجل، سياسي بطبعه، وما ظاهرة التميز السياسي إلا أثرٌ حتمي لجوهر السياسة في الإنسان. وبذلك أضحت السياسة عندهم تعني «فن الحكم»، وليس ساسةٌ الرجال يوم القتال. ذاك الفن الذي يختص بتوزيع القيم على المجتمع وإعطاء الأولوية للطاقات البشرية أو الثروات الوطنية التي تمكن أي مجتمع من تحقيق آمال أفراده وإشباع حاجاتهم الأساسية، لا الاستئثار بخيراتهم ومنعهم من الحصول على حاجاتهم الأساسية!
ومن هنا جاءت العلوم السياسية لتؤطّر هذا الفهم وتؤكد أنها تعنى بالظواهر التي تهتم بالمدينة (المجتمع)، وتكون تحت إدارة أو رقابة سلطة معينة أو وكالة تُطلق عليها الدولة. وهذا الكيان وهو الدولة، ينطلق من الشعب الذي يعيش في تلك الدولة وليس في قصور الحكام. ومن هنا قام علم السياسة بتناول الأفكار السياسية والمؤسسات والعمليات السياسية بتفاصيلها.
فإذا أردنا الاستفادة من جميع علوم السياسة قديمها وجديدها، بعيداً عن فهم معظم الساسة العرب لها، لابد أن نعي أن ما أوصلنا لما نحن نعيشه اليوم، ومازال مستمراً للأسف، بين نعم ولا، وشدٍ وجذبٍ ومماحكاتٍ هنا وهناك، وتأخير بلا تقديم يثلج الصدر بقرب الشروق بلا غيوم؛ هو سياسة ثقب الباب. فمن المعروف أن أبواب البحرين قديماً كان لها مفتاح صلب يوضع داخل ثقب الباب وبحركة دائرية يتم فتحه. وبذا فإذا أضعت مفاتيح الغرفة فلا يمكنك أن تدخل لتلك الغرفة أو تنظر من ثقب الباب بسهولة لتكتشف ماذا يدور بالداخل، ولكنك سترى أجزاء من داخل المكان المقفل وليس كل ما يحيط بذاك المكان، بحيث تصبح رؤيتك مستقيمة فقط وذات اتجاه أفقي واحد لا يغطي جميع زوايا المكان يساراً أو يميناً. وبالتالي فنظراتك لداخل الغرفة المقفلة تكون أحادية الجانب وليس بشموليته، أي أنك تصبح بعين واحدة مهما أبدلت النظر أو أمعنته بين عين وأخرى.
وهذا ما أوصلنا إلى الحالة غير الطبيعية والمحيّرة بنوع من التشظي الذي نعيشه البتة. فطول مدة المكوث وراء الباب الموصد والنظر فقط من خلال ثقب الباب الوحيد لجميع الأمور مما يجري وراء ذاك الباب؛ أورثتنا هذه الحالة. فأهل الثقب من أصحاب «العمل بالرأي الأوحد والعين الواحدة»، دون اللجوء لكتابة عقد اجتماعي حقيقي بين جميع الأطراف يُنصف الجميع ويحترمه الجميع في بوتقة العيش المشترك على أرضية متكافئة؛ جعل الغث والسمين يختلطان بحيث لم يعد هؤلاء يميزون بين الظلمة والنور.
فأطباء العيون، قبل هذا الزمان، يؤكدون أن النظر بعين واحدة من ثقب الباب الموصد لا يعطي صورةً بانورامية حقيقيةً وجليةً للمشهد أبداً، ولا وضوحا تاما لجميع الأحداث التي تجري وراء الباب الموصد منذ زمن، وقد صدئ طوال سنين الجفاف بين حراس الثقب وأهل الدار. وان هذا الثقب، وإن كان مفتاحه في الغالب من النوع الإنجليزي، لا يجعلنا نرى حتى أحجام تلك الأجساد المضطربة التي تتحرك بالداخل وقد تلبسها القلق وعششت في أخيلتها الهواجس ممن هم وراء الثقب وصانعيه ومضيعي مفتاحه. وإن كانت أنامل وأيادي تلك الأجساد ما فتئت تطرق الباب ليل نهار، وهي تتطلع للخروج من الأسر وراء الباب الموصد.
ثم إننا لا يمكن أن نرى عيون أهل الدار كاملة ونسبر أحاسيسها لنكتشف من خلالها آمالهم وأمانيهم وتطلعاتهم، ولا تعابير وجوههم كاملة ولا أحلامهم كاملة، بل ولا نستطيع أن نخفف عنهم دموعهم ونواسيهم في أحزانهم. ومن هنا جاءت الغربة داخل الدار بين أهل الثقب في الخارج وأهلها في الداخل. وفي الطرف الآخر لم يعد من الممكن لأهل الدار أن يعرفوا ما الذي جرى لأهل الثقب ولا كيفية ضياع المفتاح ومن السبب في ذلك؟ وبالتالي انقطع التواصل بين الجانبين.
والآن وقد طال أمد الانغلاق بين الجانبين، وبما أن تلك الوجوه التي أوصد الباب أمامهم زمناً طويلاً قد تضخمت أحلامهم وهم في صمت الاحترام حتى وصلت لشقوق الباب العتيق وحركاته؛ فلم يبق أمامها من منفذ للعالم الواسع سوى الثقب الوحيد في هذا الباب لتنطلق منه نحو العالم الأرحب والأكثر حرية ونقاء في الهواء وعملية التمثيل الضوئي الطبيعية بعيداً عن ملوثات الدار التي ضاقت بأصحابها في أجواء الكبت المصطنع عليها من خارج الثقب.
وبذا، فلا سياسة ثقب الباب تنفع، ولا حجة ضياع القفل تشفع، ولا سنوات الزمن ترجع؛ بل ما يفيد الآن هو فتح كل الأبواب على مصاريعها ورمي كل المفاتيح في قيعان بحرها والاعتراف بما هو كائن لا ما كان في قديم الزمان. كما لا وقت اليوم للبكاء على الثقب أو محاولة توسيعه بأعظم خبراء النجارة، بل الأنجع هو البدء بعلاج الثقوب في رئة الوطن وليس في الباب الموصد، وسلامتكم من إدمان السجائر.
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3482 - الإثنين 19 مارس 2012م الموافق 26 ربيع الثاني 1433هـ
ملچاوي
بصراحه استاذ لا تعليق مافي كلام يوفي عمق ما كتبت
من اليوم راح احترم ثقب الباب الي اخرج حقنا موضوع بهالصوره
ما الثقب وما الباب
يمكن أكون فهمت القصد وهو الحوار الذى ينتظره الناس وما سينبثق من وراءه وبالتالي الحل السياسي للأزمة الحالية في البلد والفرج قريب ان شاء الله