بعد عدن كان لابد من التوجه إلى صنعاء، العاصمة التاريخية والحالية لليمن، وكما يقول المثل: «لابد من صنعاء وإن طال السفر». صنعاء هي مركز الحكم والعمل السياسي وعاصمة الثورة الشبابية أيضاً.
كانت البداية في ساحة الإرادة أمام جامعة صنعاء في شارع الستين حيث انطلقت ثورة الشباب في (22 فبراير/ شباط 2011) لتعم اليمن من صعدة شمالاً حتى الغيظة في أقصى الجنوب الشرقي. تواجهك الخيام الممتدة في شارع الستين والشوارع المتفرعة، وتصطدم بحواجز الجيش التابع إلى الفرقة المدرعة الأولى بقيادة اللواء علي محسن الأحمر والسواتر الترابية التي أقيمت لحماية المعتصمين من هجمات قوات صالح من الحرس الجمهوري والقوات الخاصة والأمن المركزي.
أعلام الجمهورية اليمنية وصور الشهداء والشعارات تتزاحم مع بعضها بعضاً، والخيم سُمّيت بأسماء شهداء أو تجمعات أو مناطق أو مدن يمنية، وهي تزخر بالندوات والحوارات، وخصوصاً مع تخزين القات، كما يغص المكان بالباعة المتجولين، وباعة تحف الثورة.
فجأةً أخذني المرافق اليمني إلى الخيمة السياسية حيث كانت هناك ندوة حول العدالة الانتقالية، والتي شارك فيها نخبة من الأكاديميين والنشطاء السياسيين. كانت الندوة صاخبة حيث اختلطت فيها أدوار المتحدثين والجمهور، ما ذكّرني بمسرح الإيطالي براندلو، حيث تغيب الخشبة ويختلط الممثلون بالجمهور.
الحديث عن العدالة الانتقالية فتح كل الملفات دفعة واحدة: الثورة الشبابية، الأنظمة المتعاقبة على ظلم أهل اليمن، المبادرة الخليجية، الانتخابات... إلخ. استطعت من خلال الندوة أن أحيط بأهم القضايا التي تشغل بال اليمنيين والمرتبطة طبعاً بالانتخابات الرئاسية المبكرة.
كان لابد من اللقاء مع مختلف الفرقاء السياسيين وبعض منظمات المجتمع المدني والمراقبين الدوليين الذين أتوا من كل حدب. ولكن قبل كل شيء كان لابد من الحصول على بطاقة التعريف لمراقبة الانتخابات من اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء، وهناك أتيحت لي الفرصة للتعرف على النظام الانتخابي باليمن وتوزيع الدوائر، والإجراءات الانتخابية، وضوابط المراقبة ودليل اللجان الانتخابية وأهم ما قامت به اللجنة الانتخابية والمؤسسة العسكرية والأمنية لتأمين سلامة الانتخابات ونزاهتها. ومن المعروف أن الإشراف على الانتخابات مناط بحسب الدستور اليمني بلجنة من القضاة والشخصيات العامة، معينين بمرسوم جمهوري مصدق عليه من البرلمان، وكانت محل موافقة الجميع. وبموجب المبادرة الخليجية، تشكّل مناصفة لجنة عليا مشتركة (2 2) واللجنة الوطنية (100 100)، ولجنة الثلاثين، ولجان فرعية للإشراف على الانتخابات في مراكز الاقتراع من متطوعين من الكتلتين المتحالفتين المؤتمر وأحزاب اللقاء المشترك. وفعلاً؛ فقد سار العمل بهذه الصيغة بشكل سلس ولم تسجل انتهاكات مهمة لسلامة العملية الانتخابية، باستثناء الاستيلاء على بعض صناديق الاقتراع ومهاجمة بعض مراكز الاقتراع في بعض المحافظات الجنوبية.
وبموجب قرار اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء؛ فقد سمح للمراقبين اليمنيين والعرب والأجانب بمراقبتها، وفعلاً فقد تشكل تحالف من منظمات المجتمع المدني للمراقبة ضم المئات من المراقبين. كما تدفق العشرات من المراقبين الدوليين من الاتحاد الأوروبي والدول الست الكبرى ومجلس التعاون الخليجي والأمم المتحدة، ومنظمات دولية معنية مثل المعهد الوطني للديمقراطية (NDI)، و»هيومان رايتس ووتش»، و»إيفس»، إضافةً إلى ممثلي السفارات المعتمدة في صنعاء. ومن الجانب الأهلي العربي، فقد كلفت لأمثل الشبكة العربية لديمقراطية الانتخابات بمشاركة ممثلي المنظمات الأعضاء اليمنيين في الشبكة.
الانتخابات كما العملية السياسية، تحظى بدعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذين موّلا الحملة الإعلامية والعملية اللوجستية للانتخابات. وحضرت وفود عالية المستوى لإنجاح الانتخابات، وعقد بعضها مؤتمرات صحافية، كما عقدت اجتماعات مكوكية سواء بين الضيوف والمسئولين اليمنيين أو فيما بينهم.
وفي أجواء هذا الحراك النشط؛ كان هناك مؤتمران صحافيان متوازيان كل يوم، الأول في فندق تاج سبأ لطرفي التحالف مجتمعين أو منفردين، والثاني للجنة العليا للانتخابات وضيوفها في فندق موفنبيك، وكان يمكن لمن يرغب من الصحافيين والمراقبين الحضور والقيام برحلات مكوكية في شوارع صنعاء المزدحمة.
في صنعاء تشهد الحماس منقطع النظير للانتخابات، وقد ساعد على ذلك التوافق بين أكبر كتلتين سياسيتين وتعبئتهما السياسية لأعضائهم وأنصارهم للمشاركة، والحملة الإعلامية الواسعة.
من خلال اللقاء مع قياديين في حزب المؤتمر وأحزاب اللقاء المشترك؛ كان هناك اتفاق على ضرورة إنجاح المبادرة الخليجية وتنفيذ آلياتها بدقة وصدق، ما يعنى إنجاح الحل التوافقي خلال المرحلة الانتقالية، والتي تتضمن ما يأتي:
1 - تشكيل حكومة ائتلاف وطني برئاسة محمد باسندوة من المعارضة وقد تمت.
2 - انتخاب رئيس توافقي من المؤتمر وهو عبدربه منصور هادي.
3 - بعد ذلك إجراء حوار وطني شامل لمختلف الأطراف السياسية وتشمل المؤتمر وأحزاب اللقاء المشترك والحوثيين والحراك الجنوبي وشباب الساحات.
4 - إعادة هيكلة القوات العسكرية والأمنية.
5 - تعديل الدستور وإقراره.
6 - ضمان الدعم الخليجي والعربي والدولي لإنقاذ الاقتصاد اليمني وإنعاشه.
7 - تنتهي الفترة الانتقالية خلال سنتين، بإجراء انتخابات نيابية ورئاسية بموجب الدستور الجديد.
طبعاً، هناك من يعترض على المبادرة الخليجية وآلياتها، باعتبار أنها تجاهلت طرفاً أساسيّاً يعدّ له الفضل في كل ما جرى وهم شباب الساحات.
من خلال تقصي الآراء؛ فإن هناك قوى تريد عرقلة الحل التوافقي والمرحلة الانتقالية وفي مقدمة هؤلاء التنظيمات الإسلاموية المتطرفة، مثل: القاعدة والجهاد وأنصار الشريعة، وبعض عناصر الحراك الجنوبي، والحوثيين، وآخرين مستترين. لكن أخطر ما يتهدد الحل التوافقي والتحول الديمقراطي، هو عودة علي عبدالله صالح، وإصراره على قيادة حزب المؤتمر، وتوجيه شبكة واسعة من القيادات العسكرية والأمنية والسياسية والقبلية المرتبطة به، بحيث يحبط ممارسة الرئيس المنتخب عبدربه منصور لصلاحياته، والتحول المطلوب في حزب المؤتمر من حزب الرئيس المستبد إلى حزب وطني. وفعلاً فقد ارتفعت أصوات في المؤتمر تحذر من تصفيه حزب المؤتمر وتطالب علي صالح بإنقاذه.
أما الخطر الآخر فيشمل تمسك قياديين بارزين عسكريين وأمنيين من أقارب علي صالح وأتباعه القياديين في أجهزة الدولة بالتمسك بمواقعهم والحيلولة دون إعادة هيكلة الجيش والأمن، وقد يجرون البلاد إلى مواجهات عسكرية وأمنية. وفعلاً؛ فإن البلاد تشهد ما يعرف بثورة المؤسسات بعد ثورة الساحات، حيث يعتصم ويتظاهر المنتسبون إلى التشكيلات العسكرية والأمنية ومؤسسات الدولة، مطالبين بإزاحة قياداتها. ومثال ذلك ما يجري في سلاح الطيران والقواعد الجوية للمطالبة بإقالة اللواء محمد عبدالله الصالح الأخ غير الشقيق لعلي صالح وغير ذلك. وليست من ضمانات لاستجابة المسئولين بالاستقالة تجنب البلاد حرباً أهلية، كما ليس من ضمان باستمرار سلمية التحركات.
أما الخطر الثالث فيتمثل في تصاعد عمليات العنف من قبل تنظيمات القاعدة والجهاد وأنصار الشريعة وبعض أنصار الحراك الجنوبي وصدامات الحوثيين مع تشكيلات قبلية. وقد كانت عملية اقتحام أحد انتحاريي القاعدة للقصر الجمهوري المهجور في المكلا تطوراً خطيراً ينذر بالكارثة.
من هنا كان تركيز الرئيس المنتخب في خطاب القسم أمام البرلمان هو التصدي لتنظيم القاعدة كأولوية، لضمان الأمن والاستقرار. وعلى رغم أجواء الاضطراب والتهويل، كانت نتائج الانتخابات تفويضاً قويّاً للعملية السياسية وللرئيس المنتخب. فقد ذكرت اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء أن من أدلوا بأصواتهم بلغ 60 في المئة ممن يحق لهم الانتخاب بحسب لوائح 2008، وافق منهم 99 في المئة على عبدربه منصور. والملاحظ هنا أن ورقة الاقتراع لا تعطي خياراً للمرشح، أي (موافق، غير موافق، ممتنع) هو ما أدى بالبعض إلى الكتابة بما يرغب وتسبب ذلك في إبطال 300 ألف ورقة اقتراع، وهو ما كان يمكن تفاديه بالنص على هذه الخيارات وبالتالي جعلها أكثر ديمقراطية.
بعد انتخاب الرئيس عبدربه منصور هادي للفترة الانتقالية من سنتين إلى جانب حكومة توافقية، وبرلمان وتحالف بين أكبر كتلتين سياسيتين؛ فإن القاعدة المتفق عليها هي التوافق سواء في قرارات الرئاسة أو الحكومة أو البرلمان، أو التحالف وأيضاً في الحوار الوطني المرتقب.
التوافق يتطلب إدراكاً من الجميع لخطورة المرحلة، وتغليب مصلحة اليمن ووحدته واستقراره وتحوّله الديمقراطي، وخروجه من الهاوية الاقتصادية والاجتماعية، إلى رحاب الازدهار والتقدم والنماء، على المصالح الحزبية والجهوية والقبلية. إنها تتطلب مسئولية كبيرة من مواقع المسئولين والقيادات السياسية والنخب السياسية والمجتمعية والدينية. وعلى كل تنظيم أن يتخلص أو يلجم على الأقل دعاة التوتير والتطرف. ذلك ما سيتبين من استجابة جميع القوى السياسية للحوار الوطني والمشاركة فيه بايجابية وموضوعية.
برأيي فإنه لضمان ذلك، على حزب المؤتمر أن يبعد علي صالح وأقاربه وأتباعه من حزب المؤتمر، وأن تتصدى قيادة إصلاحية لقيادته، وعلى الحراك الجنوبي أن يتوحّد في رؤية موضوعية تحافظ على الوحدة بصيغة جدية تنصف الجنوب، وعلى الحوثيين أن ينتقلوا إلى العمل السياسي، ويطرحوا مطالبهم من خلال الحوار الوطني. وعلى شباب الساحات التمسّك بالاعتصام والتظاهر لضمان استمرار تحقق أهداف الثورة بالوسائل السلمية وبما لا يعوق النشاط الاقتصادي. هذا اجتهاد مني قد أخطئ وقد أصيب استهداءً بقول الإمام الشافعي.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3477 - الأربعاء 14 مارس 2012م الموافق 21 ربيع الثاني 1433هـ
سؤال صغير و أرجو من الوسط نشره ..
هل توجد أية إنعكاسات سلبية أو إيجابية للتجربة اليمنية على الساحة البحرينية؟
بعد التحية يا أستاذنا الفاضل
حاول بأن تختصر قليلاً يا عزيزي بأطروحاتك لكي يتسنّى لنا القراءة و الفهم بأريحية أكثر.
مع فائق الإخترام