لن تجد شعباً تعب من المطالبة بحقوقه. لحظتها سيكون رقماً كأي رقم في إحصاء. سيكون قد مات؛ أو كتب شهادة موته بنفسه. ولم نقفْ عبر التاريخ كلّه على قصة شعب استسلم لقدر مصطنع طارئ أو مفروض عليه. الشعوب دائماً تصنع قدَرَها وتوجّه الحياة إلى الوجْهة التي تمثّل تطلعاتها.
والذين يطالبون ويتساءلون في اللحظات الفارقة والحقّة: أما آن لهذا البلد أن يستريح؟ هم الذين أوصلوه إلى هذه المرحلة بتحريضهم ووشايتهم وتسقيطهم وتخوينهم وسبابهم اليومي واستهدافهم الضالع في الفرز. هم الذين أوصلوه إلى ما يشبه الطرق الموصدة. منتفعون متزلفون باحثون عن مغانم وفرص وكوارث كي يختبروا لياقتهم في الرقص والاستيلاء. لزموا الصمت زمناً يوم أن سرق الحق في الأفق. يوم أن سُوّر حتى الفضاء الشحيح. كانوا في مأمن من التعرض إلى ضريبة الفضح والكشف.
كانوا في مأمن من الدخول في مواجهة المساءلة انتظاراً للفرصة وتحيّناً للحظة الاستيلاء على الغنائم ولو على حساب جراحات وانتهاكات وتجاوزات وتسقيط وتخوين جزء أصلي وثابت ومتجذّر له امتداداته، يتم التجني عليه اليوم في موقف عمومي من قبل بعض المحسوبين على هذا الوطن وأحياناً من قبل طارئين وحتى عابرين بتأشيرة سياحية ليأخذوا حظهم وحصّتهم من السُباب الأممي العابر للقارات.
لا يعني صبر أو تأخر التصريح والصيحة والتنادي بمطالب شعب عدم مشروعيتها، وأنه يهندس للفتنة وأنه مرتبط بأجندات خارجية. أودّ أن أعرف حجم هذه الأجندات التي باتت لكثرة استهلاك حضورها في الإعلام الموجّه، تكاد تتجاوز محيط الكون وتتجاوز سخافة الذين يستدعونها لسبب أو من دون سبب. تأخر تلك المطالب والحقوق لا يلغي مشروعيتها. قبضة القمع والفساد والاستيلاء والاستقواء أيضاً قد يؤخر أو يؤجّل المطالب تلك؛ لكنه لا يلغيها أو يدفع بها إلى المواراة والنسيان والزجّ بها وراء أكثر من حجاب. ذلك منطق لم يعد صالحاً للاستهلاك عندما تتضح مأساة الفوارق وتتكشّف البرازخ بين الطبقات وتتفشّى السرقات كأنها أعياد ميلاد وتعلو التجاوزات وتُقرّ وكأنها القانون ويكرّس القمع وكأنه برنامج عملي في التعاطي مع الحقوق. حتى الحشرة في مكمنها لا تقبل بهكذا منطق أعوج وأعرج: الصمت على الوضع لتوخّي السلامة. ولسنا حشرات كي نتبنّى مثل ذلك المنطق إذا كان له من وجود أساساً ويلقى قبولاً ولو في عالم الوهم.
محاولة التحايل على الخرائط لا تمس التراب والجغرافية فقط، هي تذهب أبعد من ذلك بكثير. لا نريد استدعاء مقولة أحد إرهابيي الكيان الصهيوني: «لبنان خطأ جغرافي». المحاولة تذهب إلى التحايل في تغيير خرائط الحقوق وتغييب الكفاءات وتهميشها ومصادرة المعنى من الوجود وفيه. كل ذلك الهوس والانهيار العصبي الذي يكاد يكون سمة عصر لا أعصاب فيه حين ينطلق صوت وصرخة حق أمام تاريخ طويل وممتد من الظلم الممنْهج والتمييز الفاقع والاستهزاء بقيمة الإنسان وسحله أمام كاميرات العالم التي لم تعد خفية.
حين كتب فاليري: «أولاد الأزقة هم بالدرجة الأولى أولاد المطر» كان يعي أن الذين يعلنون صرختهم واحتجاجهم هم الذين يصنعون الحياة للجميع. حتى لأولئك الذين ينتظرون ثمرة الصرخة والاحتجاج بعيداً عن العناء والمواجهة. وبالمناسبة لم يكن أكثرنا ممن خرجوا يوم 9 مارس/ آذار 2012 يتوقع استدعاء مقولة فاليري بحكم حضوره مفكراً وناقداً ومؤسساً للفكر النقدي الإنساني، وأنه سيذْكرنا في خريطة هذا العبث الذي يطولنا بشكل أممي. لا مطر يوم التاسع من مارس؛ لكن الطوفان البشري كان أبلغ من كل مطر يتوقع أي منا هطوله. هطلوا بعفويتهم وعنائهم وعذابهم الطويلين. تدفقوا لكي يحرسوا ويحموا حقوقاً صودرت وطال خريفها الجميع، ونهباً يبدو أن لا نهاية له، والمتضرر منه في جنوسان كما عسكر والزلاق والبرهامة. لم يكونوا بحاجة إلى من يعيد لملمة شعثهم بعد قمع رصدته الكاميرات؛ إذ انتهاء سطوة الدول على المعلومة والصورة وتوجيههما.
أكرر، لا شعب في الدنيا ملّ أو تعب من المطالبة بحقوقه. الأنظمة هي المرشّحة للملل والتعب، وخصوصاً حين تأتي ممارساتها على الأرض مخالفة لطبيعة وفطرة الحياة وطبيعة وفطرة الإنسان. ملل الشعوب أو تعبها من تلك المطالبات والحقوق يعطي مبرراً وصك اعتراف بكل القمع والمجازر والتجاوزات والانتهاكات التي ارتكبت في حقها.
التاريخ علّمنا - ولايزال - ويذكّرنا - ولايزال - أنه ثقيل دم لا يقبل المزاح؛ لأن عينه على المستقبل. ذلك هو التاريخ. ماذا عن البشر الذين هم في اللبّ من معناه وحضوره؟ هل يظن واهم أن البشر خلقوا لكي يكونوا تاريخيين؟ خلقوا لكي يذهبوا إلى ما بعد المستقبل. ما بعد صنع الحياة والحركة والفعل والإنجاز.
وعلى امتداد التاريخ وامتداد الحياة لم يختف شعب من الخريطة. الشعوب بالطبيعة ومنطق الحياة هي امتداد للحياة نفسها ولا معنى للحياة من دونها. والذين يحكمون الشعوب بغضّ النظر عن عدالتهم أو النقيض هم طارئون وعابرون في حركة الحياة مثل سواهم من البشر. صحيح أن ضبط الحكم عدلاً وإنصافاً يحجز لهم مكانة في ذاكرة الزمن والتاريخ وذاكرة من يُحْكَمون؛ لكنهم عابرون بأدوار تصدّوا لها فأضافوا أو انتقصوا من قيمتهم قبل أن يضيفوا أو ينتقصوا من قيمة الحياة.
تلك معادلة لا يمكن الإخلال بقيمتها، ولا يمكن المسّ بنظميتها ففي ذلك مسّ بقيمة ونظمية النواميس والقوانين التي يدور عبرها هذا الفلك؛ إلا إذا أصرّ أولئك على امتلاكهم جهاز تحكّم عن بعد لإدارة مساره. بذلك ندخل في مساحة وهم مركّبة ومركّزة.
فقط، أشفق على الذين يطبّلون لوهْم لا يمكن أن يتسق مع نظمية وحقيقة الحياة. وهْم استبعاد وإلغاء وشطب من لا يتفق مع مهادنتهم لانحراف ماثل وقائم، قبالة رفض الخلل في الحياة. ذلك واحد من جدوى أن تعيد الحياة النظر إلى سكّانها ومنتسبيها.
التاريخ ليس ثقيل دم فحسب ولا يقبل المزاح؛ إنه لا يرحم. هو ذاكرة الخليقة. نحن جزء من تلك الذاكرة والذين تجاوزوا ليسوا بمنأى عنها.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3477 - الأربعاء 14 مارس 2012م الموافق 21 ربيع الثاني 1433هـ
اي حقوق
فقط انظر الى الجارة الشمالية وسوف تعرف أى نعيم تعيش فيه ... كفى ..كفى
حبّذا يا أستاذ "جعفر" لو تتحدّث بصورة مباشرة أكثر و تُركّز على ماهية المطالب بلا لفّ و لا مُداراة ... فالوضع لا يحتمل المزيد من التورية.
مع فائق الإحترام